ويحتمل عوده لعيسى، أي: جاء لبني إسرائيل {بالبينات} أي: من المعجزات العظيمة التي لا يسوغ لعاقل إلا التسليم لها، ومن الكتاب المبين {قالوا} أي: عند مجيئها من غير نظرة تأمل {هذا} أي: المأتي به من البينات، أو الآتي بها على المبالغة {سحر} فكانوا أول كافر به، لأن هذا وصف لهم لازم سواء بلغهم ذلك أم لا {مبين} أي: في غاية البيان في سحريته. وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء، وهذه القراءة مناسبة للتفسير الثاني، والباقون بكسر السين وسكون الحاء، وهذه مناسبة للتفسير الأول.
{ومن} أي: لا أحد {أظلم} أي: أشد ظلماً {ممن افترى} أي: تعمد {على الله} أي: الملك الأعلى {الكذب} أي: بنسبة الشريك والولد إليه، ووصف آياته بالسحر، ووصف أنبيائه بالسحرة {وهو} أي: والحال أنه {يدعى} أي: من أي داع كان {إلى الإسلام} أي: الذي هو أحسن الأشياء فإن له فيه سعادة الدارين، فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على الله تعالى: {والله} أي: الذي له الأمر كله فلا أمر لأحد معه {لا يهدي القوم} أي: لا يخلق الهداية في قلوب من فيهم قوة المجادلة للأمور الصعاب {الظالمين} أي: الذين يخبطون في عقولهم خبط من هو في الظلام.
{يريدون} أي: يوقعون إرادة ردهم للرسالة بافترائهم {ليطفئوا} أي: لأجل أن يطفئوا {نور الله} أي: الملك الذي لا شئ يكافئه {بأفواههم} أي: بما يقولون من كذب لا منشأ له غير الأفواه، لأنه لا اعتقاد له في القلوب.
تنبيه: الإطفاء هو الإخماد يستعملان في النار وفيما يجري مجراها من الضياء والظهور، ويفرق بين الإطفاء والإخماد من حيث إن الإطفاء يستعمل في القليل، فيقال: أطفأت السراج، ولا يقال: أخمدت السراج، وفي هذه اللام أوجه: أحدها: أنها تعليلية كما مر، ثانيها: أنها مزيدة في مفعول الإرادة، وقال الزمخشري: أصله يريدون أن يطفئوا كما في سورة التوبة، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة توكيداً له، لما فيها من معنى الإرادة في قولك: جئتك لإكرامك، كما زيدت اللام في: لا أب لك تأكيداً لمعنى الإضافة في لا أباك.
قال الماوردي: وسبب نزول هذه الآية ما حكاه عطاء عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوماً، فقال كعب بن الأشرف: يا معشر يهود أبشروا فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه وما كان ليتم أمره، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية» ، واتصل الوحي بعدها واختلف في المراد بالنور، فقال ابن عباس: هو القرآن، أي: يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول. وقال السدي: الإسلام، أي: يريدون رفعه بالكلام. وقال الضحاك: إنه محمد صلى الله عليه وسلم أي: يريدون هلاكه بالأراجيف وقال ابن جريج: حجج الله تعالى ودلائله، يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم. وقيل: إنه مثل مضروب، أي: من أراد إطفاء نور الشمس بفيه فوجده مستحيلاً ممتنعاً، كذلك من أراد إطفاء الحق {والله} أي: الذي لا مدافع له لتمام عظمته {متم نوره} فلا يضره ستر أحد له بتكذيبه ولا إرادة إطفائه، وزاد ذلك بقوله تعالى: {ولو كره} أي: إتمامه له {الكافرون} أي: الراسخون في جهة الكفر المجتهدون في المحاماة عنه.
{هو} أي: الذي ثبت أنه جامع لصفات الكمال والجلال وحده من غير أن يكون له شريك أو وزير {الذي أرسل رسوله} أي: الحقيق