لتبصر وتذكر كل عبد بماله من النقص وبمادل عليه هذا الصنع من الكمال أنه عبد مربوب لصانعه {منيبٍ} أي: رجاع عما خطه إليه طبعه إلى ما يغلبه عليه عقله فيرجع من شهود هذه الأفعال إلى شهود الصفات إلى علم الذات.
ثم ذكر تعالى دليلاً بقوله تعالى:
{ونزلنا من السماء} أي: المحل العالي الذي لا يمسك فيه الماء عن دوام التقاطر إلا بقاهر {ماء} أي شيئاً فشيئاً في أوقات وعلى سبيل التقاطر ولولا عظمتنا التي لا تضاهي لغلب بما له من الثقل والميوع والنفوذ فنزل دفعة واحدة فأهلك ما نزل عليه فنزل دفعة واحدة فأهلك ما نزل عليه فزالت المسرّة وعادت المنفعة مضرّة {مباركاً} أي: نافعاً جدّاً كثير لبركة وفيه حياة كل شيء، وهو المطر فيكون الاستدلال بالسماء والأرض وما بينهما وهو إنزال الماء من فوق وإخراج النبات من تحت {فأنبتنا} أي: بما لنا من القدرة الباهرة {به جناتٍ} من الشجر والثمر والزرع والريحان وغيره مما تجمعه البساتين فتجن أي تستر الداخل فيها {وحب الحصيد} أي: النجم الذي من شأنه أنه يحصد كالبر والشعير ونحوهما وقوله تعالى:
{والنخل} منصوب عطفاً على مفعول أنبتنا أي وأنبتنا النخل وقوله تعالى {باسقات} أي: طوالاً حال مقدّرة لأنها وقت الإثبات لم تكن طوالاً والبسوق الطول يقال بسق فلان على أصحابه أي طال عليهم في الفضل ومنه قول أبي نوفل في ابن هبيرة:
*يا ابن الذين بمجدهم ... بسقتهم قيس فزاره*
وهو استعارة والأصل استعماله في بسقت النخلة تبسق بسوقاً أي طالت قال الشاعر:
*لنا خمر وليست خمر كرم ... ولكن من نتاج الباسقات*
*كرام في السماء ذهبن طولا ... وفات ثمارها أيدي الجناة*
وبسقت الشاة ولدت، وأبسقت الناقة وقع في ضرعها اللبن قبل النتاج. وقال سعيد بن جبير: باسقات: مستويات وأفردها بالذكر لفرط ارتفاعها {لها طلع} يجوز أن تكون الجملة حالاً من النخل أو من الضمير في باسقات ويجوز أن يكون الحال وحده لها وطلع فاعل به وقوله تعالى: {نضيد} بمعنى منضود بعضها فوق بعض في أكمامها كما في سنبلة الزرع وهو عجيب فإنّ الأشجار الطوال ثمارها بارزة بعضها على بعض لكل واحدة منها أصل يخرج منه كالجوز واللوز والطلع كالسنبلة الواحدة تكون على أصل واحد وقوله تعالى:
{رزقا} يجوز أن يكون حالاً أي مرزوقاً {للعباد} ويجوز أن يكون مفعولاً له وللعباد إمّا صفة وإمّا متعلق بالمصدر، فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى عند ذكر خلق السماء والأرض تبصرة وذكرى وفي الثمار قال رزقاً والثمار أيضاً فيها تبصرة وفي السماء والأرض أيضاً منفعة غير التبصرة والتذكرة.
أجيب: بأنّ الاستدلال وقع لوجود أمرين:
أحدهما: الإعادة. والثاني: البقاء بعد الإعادة فإنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم بحشر وجمع يكون بعده الثواب الدائم والعقاب الدائم وأنكروا ذلك فقال: أما الأوّل فالله القادر على خلق السموات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء وأما الثاني فلأنّ البقاء في الدنيا بالرزق والقادر على إخراج الأرزاق من النخل والشجر قادر على أن يرزق بعد الحشر فكان الأولّ تبصرة وتذكرة بالخلق. والثاني: تذكرة بالبقاء والرزق ويدل على هذا الفصل بينهما بقوله تعالى