من باب القياس الظاهر لأنّ عرض الإنسان أشرف من لحمه ودمه، فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى، لأنّ ذلك أشدّ ألماً وقوله تعالى لحم أخيه آكد في المنع لأنّ العدوّ يحمله الغضب على مضغ لحم العدوّ وفي قوله تعالى: {ميتاً} إشارة إلى دفع وهم وهو أن يقال: إنّ الشتم في الوجه يؤلم فيحرم وأمّا الاغتياب فلا اطلاع عليه فلا يؤلم، فيقال لحم الأخ وهو ميت أيضاً لا يؤلم ومع هذا هو في غاية القبح كما أنه لو اطلع عليه لتألم فإنّ الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه وفيه معنى لطيف وهو أنّ الاغتياب أكل لحم الآدمي ميتاً ولا يحل أكله إلا للمضطرّ بقدر الحاجة والمضطرّ إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي فلا يأكل لحم الآدمي فكذلك المغتاب إذا وجد لحاجته مدفعاً غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب. قال مجاهد: لما قيل لهم أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً قالوا: لا قيل فكرهتموه أي كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائباً. قال الزجاج: تأويله أنّ ذكرك من لم يحضرك بسوء بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لا يحس بذلك.
قال الرازي: وفي ضمير فكرهتموه وجوه: أظهرها: أن يعود إلى الأكل. وثانيها: أن يعود إلى اللحم أي: فكرهتم اللحم. وثالثها: أن يعود إلى الميت في قوله تعالى ميتاً تقديره أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً متغيراً فكرهتموه فكأنه صفة لقوله ميتاً ويكون فيه زيادة مبالغة في التحذير يعني الميتة إن أكلت في الندرة تستطاب نادراً ولكن إذا أنتن وأروح وتغير لا يؤكل أصلاً. فكذلك ينبغي أن تكون الغيبة وذلك يحقق الكراهة ويوجب النفرة إلى حدّ لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت فكيف يقربه بحيث يأكله ففيه إذاً كراهية شديدة. وكذلك حال الغيبة.
وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظافير من نحاس يخمشون وجوههم ولحومهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» وقال ميمون بن سنان: بينما أنا نائم إذا أنا بجيفة زنجي وقائل يقول لي كل هذا قلت يا عبد الله ولم آكل هذا قال إنك اغتبت عبد فلان قلت والله ما ذكرت فيه خيراً ولا شرّاً قال ولكن سمعت ورضيت فكان ميمون لا يغتاب أحد ولا يدع أحداً يغتاب عنده.
وقوله تعالى: {واتقوا الله} أي: اجعلوا بينكم وبين الملك الأعظم وقاية بطاعته معطوف على ما تقدّم من الأوامر والنواهي أي اجتنبوا واتقوا الله {إن الله} أي: الملك الأعظم {توّاب} أي: مكرّر للتوبة وهي الرجوع عن المعصية إلى ما كان قبلها من معاملة التائب وإن كرّر الذنب فلا ييأس أحد وإن كثرت ذنوبه وعظمت {رحيم} يزيده على ذلك بأن يكرمه غاية الإكرام.
تنبيه: ختم سبحانه وتعالى الآيتين بذكر التوبة فقال في الأولى: {ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} وقال ههنا {إنّ الله تواب رحيم} لكن لما كان الابتداء في الآية الأولى بالنهي في قوله تعالى: {لا يسخر قوم من قوم} ذكر النفي الذي هو قريب من النهي وفي الثانية كان الابتداء بالأمر في قوله تعالى: {اجتنبوا كثيراً} فذكر الإثبات الذي هو قريب من الأمر. وقوله تعالى:
{يا أيها الناس} أي: كافة المؤمن وغيره {إنا} أي: على مالنا من العظمة {خلقناكم} أي: أوجدناكم من العدم على ما أنتم عليه من المقادير