في غاية الوضوح لمن قضينا بسعادته، وذلك أمر يقتضي الألفة والاجتماع وقد كانوا متفقين وهم في زمن الضلال لا يختلفون إلا اختلافاً يسيراً لا يضر مثله ولا يعد اختلافاً، فلما جاءهم العلم اختلفوا كما قال تعالى {فما اختلفوا} أي: أوقعوا الاختلاف والافتراق بغاية جهدهم {إلا من بعد ما جاءهم العلم} أي: الذي من شأنه الجمع على المعلوم فكان ما هو سبب الاجتماع سبباً لهم في الافتراق {بغياً} أي: للمجاوزة في الحدود التي اقتضاها لهم طلب الرياسة والحسد وغيرهما من نقائص النفوس {بينهم} أي: واقعاً فيهم لم يعدهم إلى غيرهم وقد كانوا قبل ذلك وهم تحت أيدي القبط في غاية الاتفاق واجتماع الكلمة على الرضا بالذل، ولذلك استأنف قوله تعالى الذي اقتضاه الحال على ما يشاهده العباد من أفعال الملوك فيمن خالف أمرهم مؤكداً لأجل إنكارهم {إن ربك} أي: المحسن إليك {يقضي بينهم} أي: بإحصاء الأعمال والجزاء عليها {يوم القيامة} أي: الذي ينكره قومك الذين شرفناهم برسالتك {فيما كانوا} أي: لما هو لهم كالجبلة {فيه يختلفون} بغاية الجهد، والمعنى: أنه لا ينبغي للمبطل أن يفرح بنعم الدنيا فإنها وإن ساوت نعم المحق أو زادت عليها فإنه سيرى في الآخرة ما يسوءه وذلك كالزجر لهم.
ولما بين تعالى أنهم أعرضوا عن الحق بغياً وحسداً أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعدل عن تلك الطريقة وأن يتمسك بالحق وأن لا يكون له غرض سوى إظهار الحق فقال تعالى:
{ثم} أي: بعد فترة من رسلهم ومجاوزة رتب كثيرة عالية على رتبة شريعتهم {جعلناك} أي: بما لنا من العزة والقدرة {على شريعة} أي: طريقة واسعة عظيمة ظاهرة مستقيمة سهلة موصلة إلى المقصود هي جديرة بأن يشرع الناس فيها ويخالطوها مبتدأة {من الأمر} أي: أمر الدين الذي هو حياة الأرواح كما أن الأرواح حياة الأشباح {فاتبعها} أي: اتبع بغاية جهدك شريعتك الثابتة بالحجج {ولا تتبع أهواء} أي: آراء {الذين لا يعلمون} أي: لا علم لهم أو لهم علم لكنهم يعملون عمل من ليس لهم علم أصلاً من كفار العرب وغيرهم، قال الكلبي: «إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة: ارجع إلى دين آبائك فهم كانوا أفضل منك وأسن فأنزل الله تعالى هذه الآية» . ثم علل هذا النهي مهدداً بقوله تعالى مؤكداً:
{إنهم} وأكد النفي فقال عز من قائل {لن يغنوا عنك} أي: لا يتجدد لهم نوع إغناء مبتدأ {من الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {شيئاً} أي: من إغناء أي: إن اتبعتهم، كما أنهم لن يقدروا لك على شيء من أذى إن خالفتهم وناصبتهم {وإن الظالمين} أي: الغريقين في هذا الوصف وهم الكفرة، وكان الأصل: وإنهم ولكنه تعالى أظهر للإعلام بوصفهم {بعضهم أولياء بعض} إذ الجنسية علة الانضمام فلا توالوهم باتباع أهوائهم {والله} أي: الذي له صفات الكمال {وليّ المتقين} أي: الذين همهم الأعظم الاتصاف باتخاذ الوقايات المنجية لهم من سخط الله تعالى، والمعنى: أن الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا وأما في الآخرة فلا ولي لهم ينفعهم في إيصال الثواب وإزالة العقاب، وأما المتقون المهتدون فالله سبحانه وليهم وناصرهم.
{هذا} أي: الوحي المنزل وهو القرآن {بصائر} أي: معالم {للناس} أي: في الحدود والأحكام فيبصروا بها ما ينفعهم وما يضرهم {وهدى} أي: قائد إلى كل خير مانع من كل زيغ {ورحمة} أي: كرامة وفوز ونعمة