لأن أكثر الأفعال بها {فإن الإنسان} أي: الآنس بنفسه المعرض عن غيره بما هو طبع له بسبب سيئة تضره {كفور} أي: بليغ الكفران ينسى النعمة رأساً ويذكر البلية ويعظمها ولم يتأمل سببها وتصدير الشرطية الأولى: بإذا، والثانية: بإن لأن إذاقته النعمة محققة من حيث إنها عادة مقضيّة بالذات بخلاف إصابة البلية وإقامة علة الجزاء مقامه ووضع الظاهر موضعه الضمير في الثانية للدلالة على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعمة، فإن كان في نعمة أشر وبطر، وإن كان في نقمة أيس وقنط، فهذا حال الجنس من حيث هو ومن وفقه الله تعالى جنبه ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم «المؤمن إن أصابه سراء
شكر فكان خيراً، وإن أصابه ضراء صبر فكان خيراً» .
ولما ذكر تعالى إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بعدها السيئة أتبع ذلك بقوله تعالى:
{لله} أي: الملك الأعظم وحده {ملك السموات} كلها على علوها وتطابقها وكبرها وعظمها وتباعد أقطارها {والأرض} جميعها على تباينها وتكاثفها واختلاف أقطارها وسكانها واتساعها {يخلق} أي: على سبيل التجدد والاختيار والاستمرار {ما يشاء} وإن كان على غير اختيار العباد لئلا يغتر الإنسان بما ملكه من المال والجاه، بل إذا علم أن الكل ملك لله وملكه وإنما حصل له ذلك القدر إنعاماً من الله تعالى عليه فيصير ذلك حاملاً له على مزيد الطاعة.
ثم ذكر من أقسام تصرفه تعالى في العالم أنه يخص بعض الناس بالأولاد الإناث والبعض بالذكور والبعض بهما والبعض محروم من الكل كما قال تعالى: {يهب} أي: يخلق {لمن يشاء} أولاداً {إناثاً} فقط ليس معهن ذكر {ويهب لمن يشاء الذكور} فقط ليس معهم أنثى، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: بتسهيل الهمزة الثانية كالياء وتبدل أيضاً واواً خالصة، والباقون بتحقيقهما وفي الابتداء الجميع بالتحقيق، وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً مع المد والتوسط والقصر ولهما أيضاً تسهيلها مع المد والقصر والروم والإشمام.
{أو يزوجهم} أي: الأولاد فيجعلهم أزواجاً أي: صنفين حال كونهم {ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً} أي: لا يولد له.
قال الرازي: وفي الآية سؤالات؛ الأول: أنه قدم الإناث في الذكر على الذكور أولاً ثم قدم الذكور على الإناث ثانياً فما السبب أي: فما الحكمة في هذا التقديم والتأخير؟ الثاني: أنه نكر الإناث وعرف الذكور، وقال في الصنفين معاً: أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً؟ الثالث: أنه لما كان حصول الولد هبة من الله تعالى فيكفي في عدم حصوله أن لا يهب فأي: حاجة في عدم حصوله إلى قوله تعالى: {ويجعل من يشاء عقيماً} الرابع: هل المراد بهذا الحكم جمع معينون أو الحكم على الإنسان المطلق ثم قال: والجواب عن الأول: أن الكريم يسعى في أن يقع الختم على الخير والراحة فإذا وهب الأنثى أولاً ثم أعطى الذكر بعدها فكأنه نقله من الغم إلى الفرح وهذا غاية الكرم، أما إذا أعطى الذكر أولاً ثم أعطى الأنثى ثانياً فكأنه نقله من الفرح إلى الغم، فذكر الله تعالى هبة الأنثى أولاً ثم ثنى بهبة الذكر حتى يكون قد نقله من الغم إلى الفرح فيكون أليق بالكرم، قيل: من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر لأن الله تعالى بدأ بالإناث، وأما تقديم ذكر الذكور على ذكر الإناث ثانياً فلأن الذكر أكمل وأفضل من الأنثى والأفضل مقدم على المفضول، وأما الجواب عن تنكير الإناث وتعريف