ثم أنثها ثانياً؟ أجيب: بأنه ذكر أولاً لأن النعمة بمعنى المنعم به كما مر وقيل: تقديره شيئاً من النعمة وأتت ثانياً اعتباراً بلفظها أو لأن الخبر لما كان مؤنثاً أعني فتنة ساغ تأنيث المبتدأ لأجله لأنه في معناه كقولهم ما جاءت حاجتك وقيل: هي أي: الحالة أو القولة كما جرى عليه الجلال المحلي أو العطية أو النعمة كما قاله البقاعي {ولكن أكثرهم} أي: أكثر هؤلاء القائلين هذا الكلام {لا يعلمون} أن التخويل استدراج وامتحان.
{قد قالها} أي: القولة المذكورة وهي قوله: {إنما أوتيته على علم} لأنها كلمة أو جملة من القول {الذين من قبلهم} أي: من الأمم الماضية. قال الزمخشري: هم قارون وقومه حيث قال إنما أوتيته على علم عندي، وقومه راضون به فكأنهم قالوها. قال: ويجوز أن يكون في الأمم الماضية آخرون قائلون مثلها {فما أغنى عنهم} أي: أولئك الماضين {ما كانوا يكسبون} أي: من متاع الدنيا ويجمعون منه.
{فأصابهم سيئات ما كسبوا} أي: جزاؤها من العذاب ثم أوعد كفار مكة فقال تعالى {والذين ظلموا} أي: بالعتو {من هؤلاء} أي: من مشركي قومك ومن للبيان أو للتبعيض {سيصيبهم سيئات ما كسبوا} أي: كما أصاب أولئك {وما هم بمعجزين} أي: فائتين عذابنا فقتل صناديدهم يوم بدر وحبس عنهم الرزق فقحطوا سبع سنين فقيل لهم:
{أولم يعلموا أن الله} أي: الذي له الجلال والكمال {يبسط الرزق} أي: يوسعه {لمن يشاء} وإن كان لا حيلة له ولا قوة امتحاناً {ويقدر} أي: يضيق الرزق لمن يشاء وإن كان قوياً شديد الحيلة ابتلاء فلا قابض ولا باسط إلا الله تعالى، ويدل على ذلك أنّا نرى الناس مختلفين في سعة الرزق وضيقه فلابد لذلك من حكمة وسبب، وذلك السبب ليس هو عقل الإنسان وجهله فإنا نرى العاقل القادر في أشد الضيق، ونرى الجاهل الضعيف في أعظم السعة، وليس ذلك أيضاً لأجل الطبائع والأفلاك لأن الساعة التي ولد فيها ذلك الملك السلطان القاهر قد ولد فيها عالم أيضاً من الناس وعالم من الحيوان غير الإنسان وتولد أيضاً في تلك الساعة عالم من النبات.
فلما شاهدنا حدوث هذه الأشياء الكثيرة في تلك الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة والشقاوة، علمنا أن الفاعل لذلك هو الله تعالى فصح بهذا البرهان العقلي القاطع صحة قوله تعالى: {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} قال الشاعر:
*فلا السعد يقضي به المشتري ... ولا النحس يقضي علينا زحل*
*ولكنه حكم رب السماء ... وقاضي القضاة تعالى وجل*
{إن في ذلك} أي: البيان الظاهر {لآيات} أي: دلالات {لقوم يؤمنون} أي: بأن الحوادث كلها من الله تعالى بوسط أو غيره.
ولما ذكر تعالى الوعيد أردفه بشرح كمال رحمته فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
{قل} يا محمد ربكم المحسن إليكم يقول {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} أي: أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي وإضافة العباد تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن {لا تقنطوا} أي: لا تيأسوا {من رحمة الله} أي: إكرام المحيط بكل صفات الكمال فيمنعكم ذلك القنوط من التوبة التي هي باب الرحمة، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي يا عبادي بسكون الياء وتسقط في الوصل، وفتحها الباقون، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي