غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} (محمد: 15)
وقوله تعالى: {وعد الله} مصدر مؤكد لمضمون الجملة فهو منصوب بفعله المقدر لأن قوله تعالى: {غرف} في معنى وعدهم الله ذلك {لا يخلف الله الميعاد} لأن الخلف نقص وهو على الله سبحانه محال، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» وقوله: الغابر أي: الباقي في الأفق في ناحية المشرق والمغرب.
ولما وصف الله تعالى الآخرة بوصف يوجب الرغبة العظيمة فيها وصف الدنيا بصفات توجب اشتداد النفرة عنها بقوله تعالى:
{ألم تر} أي: تعلم {أن الله} أي: الذي له كمال القدرة {أنزل من السماء} أي: التي لا يستمسك الماء فيها إلا بقدرة باهرة تقهر الماء على ذلك، والمراد بالسماء: الجرم أو السحاب {ماء} وهو المطر، قال الشعبي: كل ماء في الأرض فمن السماء نزل ثم إنه تعالى ينزله إلى بعض المواضع ثم يقسمه {فسلكه} أي: أدخل ذلك الماء خلال التراب حال كونه {ينابيع في الأرض} أي: عيوناً ومجاري ومسالك كالعروق في الأجسام {ثم يخرج} الله تعالى {به} أي: بالماء {زرعاً مختلفاً ألوانه} من خضرة وحمرة وصفرة وبياض وغير ذلك ومختلفاً أصنافه من بر وشعير وسمسم وغيرها {ثم يهيج} أي: ييبس {فتراه} بعد الخضرة مثلاً {مصفراً} من يبسه لأنه إذا تم جفافه حان له أن يفصل عن منابته {ثم يجعله حطاماً} أي: فتاتاً {إن في ذلك} أي: التدبير على هذا الوجه {لذكرى} أي: تذكيراً وتنبيهاً {لأولي الألباب} أي: أصحاب العقول الصافية جداً فيتذكرون هذه الأحوال في النبات فيعلمون بدلالته على وحدانية الله تعالى شأنه وقدرته وأحوال الحيوان والإنسان، وإنه وإن طال عمره فلابد من الانتهاء إلى أن يصير مصفر اللون منحطم الأعضاء والأجزاء ثم تكون عاقبته الموت، فإذا كانت مشاهدة هذه الأحوال في النبات مذكرة حصول مثل هذه الأحوال في نفسه في حياته فحينئذ تعظم نفرته عن الدنيا ولذاتها.
ولما بين تعالى الدلائل على وجوب الإقبال على طاعة الله تعالى ووجوب الإعراض عن الدنيا ولذاتها ذكر أن الانتفاع بهذه البيانات لا يكمل إلا إذا شرح الصدور ونور القلوب فقال سبحانه:
{أفمن شرح الله} أي: الذي له القدرة الكاملة {صدره للإسلام} أي: وسعه لقبول الحق فاهتدى {فهو} أي: بسبب ذلك {على نور من ربه} أي: المحسن إليه كمن أقسى الله تعالى قلبه دل على هذا {فويل} كلمة عذاب {للقاسية قلوبهم من ذكر الله} قال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة، وأما نور الله تعالى فهو لطفه. روي: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقيل: يا رسول الله فما علامة انشراح الصدر للإسلام قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت» .
فإن قيل: إن ذكر الله تعالى سبب لحصول النور والهداية وزيادة الاطمئنان