الثاني مع أنه لا يطلق إلا على الشيطان كما مر؟ أجيب: بأنه أطلق عليه على سبيل المجاز لأن الطغيان لما حصل بسبب عبادته والتقرب إليه وصفه بذلك إطلاقاً لاسم السبب على المسبب بحسب الظاهر. وقوله تعالى: {أن يعبدوها} بدل اشتمال من الطاغوت لأن الطاغوت مؤنث كأنه قيل: اجتنبوا عبادة الطاغوت. فإن قيل: على التفسير الأول إنما عبدوا الصنم لا الشيطان؟ أجيب: بأنه الداعي إلى عبادة الصنم.
فائدة: نقل في التواريخ أن الأصل في عبادة الأصنام أن القوم مشبهة واعتقدوا في الإله أنه نور عظيم وأن الملائكة أنوار مختلفة في الصغر والكبر فوضعوا تماثيل صور على وفق تلك الخيالات فكانوا يعبدون تلك التماثيل على اعتقادهم أنهم يعبدون الله والملائكة.
{وأنابوا} أي: رجعوا {إلى الله} أي: إلى عبادة الله بكليتهم وتركوا ما كانوا عليه من عبادة غيره ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء أحدها قوله تعالى: {لهم البشرى} أي: في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا: فالثناء عليهم بصالح أعمالهم وعند نزول الموت وعند الوضع في القبر، وأما في الآخرة: فعند الخروج من القبور وعند الوقوف للحساب وعند جواز الصراط وعند دخول الجنة ففي كل موقف من هذه المواقف تحصل لهم البشارة بنوع من الخير والراحة والروح والريحان.
تنبيه: يحتمل أن يكون المبشر لهم هم الملائكة عليهم السلام لأنهم يبشرونهم عند الموت لقوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم} (النحل: 32)
وعند دخول الجنة لقوله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} (الرعد: 23 ـ 24)
ويحتمل أن يكون هو الله تعالى لقوله تعالى: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} (الأحزاب: 44)
ولا مانع أن يكون من الله تعالى ومن الملائكة عليهم السلام فإن فضل الله سبحانه واسع وقوله تعالى: {فبشر عباد} قرأه السوسي بياء بعد الدال مفتوحة في الوصل ساكنة في الوقف والباقون بغير ياء.
{الذين يستمعون} أي: بجميع قلوبهم {القول فيتبعون} أي: بكل عزائمهم بعد انتقاده {أحسنه} أي: بما دلتهم عليه عقولهم من غير عدول إلى أدنى.
تنبيه: في هذا وضع الظاهر موضع مضمر {الذين اجتنبوا} للدلالة على مبدإ إحسانهم وأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل، فإذا اعترضهم أمران واجب وندب اختاروا الواجب أو مباح وندب اختاروا الندب حرصاً على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثواباً، ويدخل تحت ذلك أبواب التكاليف وهي قسمان: عبادات ومعاملات، فأما العبادات فكقولنا: الصلاة التي يذكر في تحريمها الله أكبر مع اقتران النية ويقرأ فيها بالفاتحة ويؤتى فيها بالطمأنينة في مواضعها الخمسة ويتشهد فيها ويخرج منها بالسلام، لا شك أنها أحسن من الصلاة التي لا يراعى فيها شيء من هذه الأحوال. قال الرازي: فوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة دون غيرها ا. هـ وكذا القول في جميع أبواب العبادات. قال في الكشاف: ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك وأقواها على السبر وأبينها دليلاً أو أمارة ولا تكن في مذهبك كما قال القائل:
*ولا تكن مثل غير قيد فانقادا*
يريد: المقلد ا. هـ، وأما المعاملات فكإنظار المعسر وإبرائه فالإبراء أولى وإن كان الأول واجباً، والثاني: مندوباً وكذا القول في جميع المعاملات.