بالتكذيب عن التأسي، فإن قيل: ما معنى التنكير في رسل؟ أجيب: بأن معناه فقد كذبت رسل أي: رسل ذوو عدد كثير وأولو آيات ونذر وأهل أعمار طوال، وأصحاب صبر وعزم وما أشبه ذلك، وهذا أسلى له وأحث على المصابرة.
قال القشيري: وفي هذا إشارة للحكماء وأرباب القلوب مع العوام والأجانب من هذه الطريقة فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل، وأهل الحقائق أبداً منهم في مقاساة الأذية، والعوام أقرب إلى هذه الطريقة من القراء المتعنتين.
ثم بين من حيث الإجمال أن المكذِّب في العذاب، وأن المكذَّب له الثواب بقوله تعالى: {وإلى الله} أي: وحده؛ لأن له الأمور كلها {ترجع الأمور} أي: في الآخرة فيجازيكم وإياهم على الصبر والتكذيب.
ثم بين تعالى الأصل الثالث وهو الحشر بقوله تعالى:
{يا أيها الناس} ولما كانوا ينكرون البعث أكد قوله تعالى {إن وعد الله} أي: الذي له صفات الكمال بكل ما وعد به من البعث وغيره {حق} أي: ثابت لا خلف فيه، وقد وعد أنه يردكم إليه في يوم تنقطع فيه الأسباب ويعرض عن الأحساب والأنساب {فلا تغرنكم} أي: بأنواع الخداع من اللهو والزينة {الحياة الدنيا} فإنه لا يليق بذي همة علية اتباع الدنيء والرضا بالدون الزائل عن العالي الدائم {ولا يغرنكم بالله} أي: الذي لا يخلف الميعاد وهو الكبير المتعال {الغرور} أي: الذي لا يصدق في شيء وهو الشيطان العدو، ولذلك استأنف قوله تعالى مظهراً في موضع الإضمار:
{إن الشيطان} أي: المحترق بالغضب البعيد عن الخبر {لكم} أي: خاصة {عدو} فهو في غاية الفراغ لأذاكم بتصويب مكايده كلها إليكم، وبما سبق له مع أبيكم آدم عليه السلام بما وصل أذاه إليكم، وأيضاً من عادى أباك فقد عاداك فاجتهدوا في الهرب منه ولا توالوه كما قال تعالى {فاتخذوه} أي: بغاية جهدكم {عدواً} أي: في عقائدكم وأفعالكم ولا يوجدنَّ منكم إلا ما يدل على معاداته ومناصبته في سركم وجهركم. قال القشيري: ولا تقوى على عداوته إلا بدوام الاستعانة بالرب، فإنه لا يغفل عن عداوتك فلا تغفل أنت عن مولاك لحظة.
ثم علل عداوته بقوله {إنما يدعو حزبه} أي: الذين يوسوس لهم فيعرضهم لاتباعه والإعراض عن الله تعالى {ليكونوا} باتباعه كوناً راسخاً {من أصحاب السعير} وهذا غرضه لا غرض له سواه ولكنه يجتهد في تعمية ذلك عنهم بأن يقرر في نفوسهم جانب الرجاء وينسيهم جانب الخوف، ويريهم أن التوبة في أيديهم ويسّوف لهم بها بالفسحة في الأمل والإبعاد في الأجل للإفساد في العمل، والرحمن إنما يدعو عباده ليكونوا من أهل النعيم كما قال تعالى {والله يدعو إلى دار السلام} (يونس: 25) .
ثم بين تعالى ما حال حزب الشيطان بقوله تعالى:
{الذين كفروا لهم عذاب شديد} أي: في الدنيا بفوات ما يأملونه مع تفرقة قلوبهم وانسداد بصائرهم وسفالة هممهم حتى أنهم رضوا أن يكون إلههم حجراً، وفي الآخرة بالسعير التي دعاهم إلى صحبتها، ثم بين حزبه تعالى بقوله سبحانه {والذين آمنوا وعملوا} أي: تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} من صلاة وزكاة وصوم وغير ذلك من المأمورات {لهم مغفرة} أي: ستر لذنوبهم في الدنيا ولولا ذلك لافتضحوا، وفي الآخرة بحيث لا عتاب ولا عقاب ولولا ذلك لهلكوا {أجر كبير} هو الجنة والنظر إلى وجهه