لا يعدمه من يود أنه لم يحصل، ولو قدر على إزالته لأزاله ولا يقدر على تأثير ما فيه {وما يمسك فلا مرسل له} يطلقه، واختلاف الضميرين، لأن الموصول الأول مفسر بالرحمة، والثاني مطلق يتناولها والغضب وفي ذلك إشعار بأن رحمته سبقت غضبه.
ولما كان ربما ادعى أحد فجوراً حال إمساك الرحمة أو النعمة أنه هو الممسك قال تعالى {من بعده} أي: إمساكه وإرساله {وهو} أي: هو فاعل ذلك، والحال أنه هو وحده {العزيز} أي: القادر على الإمساك والإرسال الغالب على كل شيء، ولا غالب له {الحكيم} أي: الذي يفعل في كل من الإمساك والإرسال وغيرهما ما يقتضيه علمه به ويتقن ما أراده على قوانين الحكمة فلا يستطاع نقض شيء منه.
ولما بيَّن بما يشاهده كل أحد في نفسه أنه المنعم وحده أمر بذكر نعمته بالاعتراف أنها منه، فإن الذكر يعود إلى الشكر وهو قيد الموجود وصيد المعدوم المفقود قال:
{يا أيها الناس} أي: الجميع؛ لأن جميعهم مغمورون في نعمة الله تعالى، وعن ابن عباس يريد يا أهل مكة {اذكروا} بالقلب واللسان {نعمت الله} أي: الذي لا منعم في الحقيقة سواه {عليكم} أي: في دفع ما دفع عنكم من المحن وصنع ما صنع لكم من المنن لتشكروه ولا تكفروه.
تنبيه: {نعمت} هنا مجرورة في الرسم وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء، والباقون بالتاء، وإذا وقف الكسائي أمال الهاء.
ولما أمر بذكر نعمته أكد التعريف بأنها منه وحده على وجه بين عزته وحكمته بقوله تعالى منبهاً لمن غفل موبخاً لمن جحد ورادَّاً على أهل القدر الذين يدعون أنهم يخلقون أفعالهم ومنبهاً على نعمة الإيجاد الأول {هل من خالق} أي: للنعم وغيرها {غير الله} أي: فليس لغيره في ذلك مدخل يستحق أن يشرك به، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الراء نعتاً لخالق على اللفظ ومن خالق مبتدأ مزاد فيه من، والباقون بالرفع وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه خبر المبتدأ، والثاني: أنه صفة لخالق على الموضع والخبر إما محذوف وإما يرزقكم. والثالث: أنه مرفوع باسم الفاعل على جهة الفاعلية؛ لأن اسم الفاعل قد اعتمد على أداة الاستفهام.
ولما كان جواب الاستفهام قطعاً لا بل هو الخالق وحده قال منبهاً على نعمة الإبقاء الأول بقوله تعالى: {يرزقكم} أي: وحده فنعمة الله تعالى مع كثرتها منحصرة في قسمين: نعمة الإيجاد، ونعمة الإبقاء.
ولما كانت كثرة الرزق كما هو مشاهد مع وحدة المنبع أدل على العظمة قال {من السماء} أي: بالمطر وغيره {والأرض} أي: بالنبات وغيره.
ولما بين تعالى أنه الرازق وحده قال {لا إله إلا هو فأنىَّ تُؤفكون} أي: من أين تصرفون عن توحيده مع إقراركم بأنه الخالق الرازق وتشركون المنحوت بمن له الملكوت.
ولما بين تعالى الأصل الأول وهو التوحيد ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله تعالى:
{وإن يكذبوك} أي: يا أشرف الخلق في مجيئك بالتوحيد والبعث والحساب والعقاب وغير ذلك {فقد كذبت رسل من قبلك} في ذلك، فإن قيل: فما وجه صحة جزاء الشرط ومن حق الجزاء أن يعقب الشرط وهذا سابق له؟ أجيب: بأن معناه وإن يكذبوك فتأس بتكذيب الرسل من قبلك فوضع {فقد كذبت رسل من قبلك} موضع «فتأس» استغناء بالسبب عن المسبب أعني