المرسلين إلا} وحالهم {أنهم ليأكلون الطعام} كما تأكل ويأكل غيرك من الآدمين {ويمشون في الأسواق} كما تفعل فهذه عادة مستمرة من الله تعالى في كل رسله وهم يعلمون ذلك بالسماع من أخبارهم، وهذا تأكيد من الله تعالى؛ لأنهم لا يكذبونه صلى الله عليه وسلم وقيل: معنى الآية وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قد قيل لهم مثل هذا أنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كما قال تعالى في موضع آخر: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} (فصلت، 43)
{وجعلنا} أي بالعطاء والمنع بما لنا من العظمة {بعضكم} أي: أيها الناس {لبعض فتنة} أى: بلية والمعنى: أنه تعالى ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم وبمناصبتهم والعدواة لهم وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف، وجعل الغني فتنة للفقير والصحيح فتنة للمريض والشريف فتنة للوضيع، يقول الثاني من كل: مالي لا أكون كالأول؟ وقال ابن عباس: جعلت بعضكم بلاءً لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم وترون من خلافهم فتتبعوا الهدى أم لا، وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في أبي جهل والوليد بن عقبة والعاصي بن وائل والنضر بن الحرث، وذلك أنهم رأوا أبا ذر وابن مسعود وعماراً وبلالاً وصهيباً وعامر بن فهيرة ومن دونهم قد أسلموا قبلهم، فقالوا: أنسلم ونكون مثل هؤلاء؟ وقيل: جعلناك فتنة لهم؛ لأنك لو كنت غنياً صاحب كنوز وجنات لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا، فتكون ممزوجة بالدنيا، وإنما بعثناك فقيراً لتكون طاعة من يطيعك خالصة لوجه الله من غير طمع دنيوي وقوله تعالى: {أتصبرون} أي: على ما تسمعون مما ابتليتم، به استفهام بمعنى الأمر أي: اصبروا {وكان ربك} أي: المحسن إليك إحساناً لم يحسنه إلى أحد سواك لا سيما بجعلك نبياً عبداً {بصيراً} أي: بكل شيء فهو عالم بالإنسان قبل الامتحان لم يفده ذلك علماً لم يكن عنده، ولكن يعلم ذلك شهادة كما يعلم علم الغيب، ولتقوم عليهم بذلك الحجة فلا يضيقن صدرك ولا تستخفنك أقاويلهم، فإن صبرك عليها سعادتك وفوزك في الدارين.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نظر أحدكم من فضل عليه في المال والجسم فلينظر إلى من هو دونه في المال والجسم» ، وروي: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم حذر أن تزدروا نعمة الله عليكم» . الشبهة الرابعة: لمنكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:
{وقال الذين لا يرجون لقاءنا} أي: لا يخافون البعث، قال الفراء: الرجاء بمعنى الخوف لغة تهامة، ومنه قوله تعالى: {ما لكم لا ترجون لله وقاراً} (نوح، 13)
أي: لا تخافون لله عظمة {لولا} أي: هلا ولم لا {أنزل} أي: على أي وجه كان من أي منزل كان {علينا الملائكة} كما نزلت عليه فيما يزعم وكانوا رسلاً إلينا، أو فتخبرنا بصدقه {أو نرى ربنا} بما له علينا من الإحسان، وبما لنا نحن من العظمة بالقوة بالأموال وغيرها، فيأمرنا بما يريد من غير حاجة إلى واسطة؛ قال الله ردّاً عليهم: {لقد استكبروا} أي: تعظموا {في} شأن {أنفسهم} أي: أظهروا الاستكبار عن الحق، وهو الكفر والعناد في قلوبهم واعتقدوه كما قال تعالى: {إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} (غافر، 56)
{وعتوا} أي: تجاوزوا الحد في الظلم {عتواً كبيراً} أي: بالغاً أقصى مراتبه حيث عاينوا المعجزات الظاهرة، فأعرضوا عنها واقترحوا لأنفسهم الخبيثة ما سدت دونه مطامح النفوس القدسية، واللام جواب قسم محذوف، وفي فحوى هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ تعجب، ألا ترى