الظاهر موضع ضميرهم للتعليل وبعداً وسحقاً ونفراً وتخويفاً ونحوها مصادر موضوعة مواضع أفعالها وهي من جملة المصادر التي قال سيبويه: نصبت بأفعال لا يستعمل إظهارها.
القصة الثالثة: المذكورة في قوله تعالى:
{ثم أنشأنا} أي: بعظمتنا التي يضرها تقديم ولا تأخير {من بعدهم} أي: من بعد من قدّمنا ذكره من نوح والقرن الذي بعده {قرونا} أي: أقواماً {آخرين} فهو سبحانه وتعالى تارة يقص علينا في القرآن مفصلاً كما تقدم، وتارة يقص مجملاً كما هنا، وقيل: المراد قصة لوط وشعيب وأيوب ويوسف عليهم السلام، وعن ابن عباس: بني إسرائيل، ثم إنه تعالى أخبر بأنه لم يعجل على أحد منهم قبل الأجل الذي أجل لهم بقوله تعالى:
{ما تسبق من أمة أجلها} أي: الذي قدر لها بأنّ تموت قبله {وما يستأخرون} عنه.
تنبيه: ذكر الضمير بعد تأنيثه رعاية للمعنى ومن زائدة.
{ثم أرسلنا رسلنا تتراً} أي: متتابعين بين كل اثنين زمان طويل، وقرأ أبو عمرو: رسلنا بسكون السين، والباقون برفعها، وقرأ تترا، ابن كثير وأبو عمرو في الوصل بتنوين الراء على أنه مصدر بمعنى التواتر وقع حالاً، والباقون بغير تنوين، ولما كان كأنه قيل: فكان ماذا؟ قيل: {كلما جاء أمّة رسولها} أي: بما أمرناه من التوحيد {كذبوه} أي: كما فعل هؤلاء بك لما أمرتهم بذلك.
تنبيه: أضاف الرسول مع الإرسال إلى الرسل ومع المجيء إلى المرسل إليهم؛ لأنّ الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه والمجيء الذي هو منتهاه إليهم، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والواو، والباقون بتحقيقهما، وهم على مراتبهم في المدّ {فأتبعنا} القرون بسبب تكذيبهم {بعضهم بعضاً} في الإهلاك، فلم يبق عند الناس منهم إلا أخبارهم كما قال تعالى: {وجعلناهم أحاديث} أي: أخبار يسمعونها ويتعجب منها ليكونوا عظة للمستبصرين فيعلموا أنه لا يفلح الكافرون ولا يخيب المؤمنون، وما أحسن قول القائل:
*ولا شيء يدوم فكن حديثاً
... جميل الذكر فالدنيا حديث
والأحاديث تكون جمعاً للحديث، ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكون جمعاً للأحدوثة التي هي مثل الأعجوبة والألعوبة وهي ما يتحدث به الناس تلهياً وتعجباً وهو المراد هنا، ولما تسبب عن تكذيبهم هلاكهم المقتضي لبعدهم قال تعالى: {فبعداً لقوم} أي: أقوياء على ما يطلب منهم {لا يؤمنون} أي: لا يوجد منهم إيمان وإن جرت عليهم الفصول الأربعة لأنه لا مزاج لهم معتدل.
القصة الرابعة: قصة موسى وهارون عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى:
{ثم أرسلنا} أي: بما لنا من العظمة {موسى وأخاه هارون بآياتنا} قال ابن عباس: الآيات التسع وهي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والبحر والسنين ونقص الثمرات {وسلطان مبين} أي: حجة بيّنة وهي العصا وأفردها بالذكر؛ لأنها قد تعلق بها معجزات شتى من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر بضربها، وكونها حارساً وشمعة وشجرة خضراء مثمرة ودلواً ورشاء، فجعلت كأنها ليست بعصا لما استبدت به من الفضائل فلذلك عطفت عليها كقوله تعالى: {من كان عدوّاً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} ، ويجوز أنّ يراد بالآيات نفس تلك المعجزات وبالسلطان المبين كيفية