أجيب: بأنه أطلق عليه ذلك للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى، 40)
{يخادعون الله وهو خادعهم} (النساء، 142) ، وكما في قوله: كما تدين تدان.
فإن قيل: كيف طابق ذكر العفو الغفور في هذا الموضع مع أنّ ذلك الفعل جائز للمؤمنين؛ لأنهم مظلومون؟ أجيب: بأن المنتصر لما اتبع هواه في الانتقام، وأعرض عما ندب الله تعالى له بقوله تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} (الشورى، 43)
وبقوله تعالى: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} (الشورى، 40)
وبقوله تعالى: {وأن تعفو أقرب للتقوى} (البقرة، 237) ، فكان في إعراضه عما ندب إليه نوع إساءة أدب فكأنه تعالى قال: عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها له، فإني أنا الذي أذنت له فيها، وفي ذكر العفو تنبيه على أنه تعالى قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضدّه
{ذلك} أي: النصر {بأنّ الله} أي: المتصف بجميع صفات الكمال {يولج} أي: يدخل لأجل مصالح العباد المسيء والمحسن {الليل في النهار} فيمحو ظلامه بضيائه، ولو شاء الله تعالى مؤاخذة الناس لجعله سرمداً فتعطلت مصالح النهار {ويولج النهار في الليل} فينسخ ضياءه بظلامه ولولا ذلك لتعطلت مصالح الليل، أو بأنّ يدخل كلاً منهما في الآخر فيزيد به وذلك من أثر قدرته التي بها النصر {وأنّ الله} بجلاله وعظمته {سميع} لكل ما يقال {بصير} لكل ما يفعل، دائم الاتصاف بذلك، فهو غير محتاج إلى سكون الليل ليسمع، ولا لضياء النهار ليبصر؛ لأنه سبحانه وتعالى منزه عن الأغراض، ولما وصف تعالى نفسه بما ليس لغيره علله بقوله تعالى:
{ذلك} أي: الاتصاف بتمام القدرة وشمول العلم {بأنّ الله} أي: القادر على كل ما أراد {هو} وحده {الحق} أي: الثابت الواجب الوجود {وأنّ ما يدعون} أي: يعبد المشركون {من دونه} وهو الأصنام {هو الباطل} الزائل، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة بالتاء على الخطاب للمشركين، والباقون بالياء على الغيبة، وأنّ هذه مقطوعة من ما في الرسم {وأنّ الله} لكونه هو الحق الذي لا كفء له {هو} وحده {العليّ} أي: العالي على كل شيء بقدرته {الكبير} وكل ما سواه سافل حقير تحت قهره وأمره، ثم إنه سبحانه وتعالى استدل على كمال قدرته بأمور ستة:
الأول: قوله تعالى:
{ألم ترَ} أي: أيها المخاطب {أنّ الله} أي: المحيط قدرة وعلماً {أنزل من السماء ماءً} أي: مطراً بأنّ يرسل رياحاً فتثير سحاباً، فيمطر على الأرض الماء {فتصبح الأرض} أي: بعد أنّ كانت مسودّة يابسة ميتة جامدة {مخضرة} حية يانعة مهتزة نامية بما فيه رزق العباد وعمارة البلاد فإن قيل: لم قال تعالى: {فتصبح} ، ولم يقل: فأصبحت؟ أجيب: بأنّ ذلك لنكتة وهي إفادة بقاء المطر زماناً بعد زمان كما تقول: أنعم عليّ فلان عام كذا فأروح وأغدو شاكراً له، ولو قلت: فرحت وغدوت شاكراً له لم يقع ذلك الموقع. فإن قيل: لم رفع ولم ينصب جواباً للاستفهام؟ أجيب: بأنه لو نصب لأعطى عكس ما هو الغرض؛ لأنّ معناه أنبتت الأخضر فينقلب بالنصب إلى نفي الأخضر، ووجه ذلك: بأنّ النصب بتقدير أنّ وهو علم للاستقبال فيجعل الفعل مترقباً والرفع جزم بإثباته مثاله أنّ تقول لصاحبك: ألم ترَ أني أنعمت عليك فتشكر، فإن نصبته فأنت ناف لشكره شاك في تفريطه فيه، وإن رفعته فأنت مثبت لشكره، وهذا وأمثاله مما يجب أنّ يتنبه له من اتسم بالعلم في علم الإعراب، وتوقير أهله {إن الله} أي: الذي له تمام النعم وكمال العلم {لطيف} بعباده في