قال الشاعر:
*فلا زال ما تهواه أقرب من غد
... ولا زال ماتخشاه أبعد من أمس
ولأنّ ما بقي من الدنيا أقصر وأقل مما سلف منها بدليل انبعاث خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه الموعود ببعثه في آخر الزمان، وقال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» ، وأشار بإصبعيه وقال صلى الله عليه وسلم «ختمت النبوة بي» كل ذلك لأجل أن الباقي من مدة التكليف أقل من الماضي، وعن ابن عباس أن المراد بالناس المشركون وهو من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم، وهو ما يتلوه من صفات المشركين، وهو قوله تعالى: {وهم} أي: والحال أنهم {في غفلة} أي: عن الحساب {معرضون} عن التأهب لهذا اليوم لا يتفكرون في عاقبتهم، ولا يتفطنون لما يرجع إليه خاتمة أمرهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء المحسن والمسيء، وأيضاً إن هذه الآية نزلت في كفار مكة، ولما أخبر تعالى عن غفلتهم وإعراضهم دلّ على ذلك بقوله:
{ما يأتيهم} وأغرق في النفي بقوله: {من ذكر} أي: وحي ينبههم عن سنة الغفلة والجهالة، وقوله تعالى: {من ربهم} صفة ذكر أوصلة ليأتيهم {محدث} إنزاله أي: ما يحدث الله تعالى من تنزيل شيء من القرآن يذكرهم ويعظهم به، وبهذا سقط احتجاج المعتزلة بأن القرآن حادث لهذه الآية، وقيل: معناه أن الله تعالى يحدث الأمر بعد الأمر، فينزل الآية بعد الآية والسورة بعد السورة في وقت الحاجة لبيان الأحكام وغيرها من الأمور والوقائع، وقيل: الذكر المحدث ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وبيّنه من السنن والمواعظ سوى ما في القرآن، وإضافه إليه؛ لأن الله تعالى قال: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} (النجم: 3، 4)
{إلا استمعوه} أي: قصدوا إسماعه وهو أجد الجد وأحق الحق {وهم} أي: والحال أنهم {يلعبون} أي: يفعلون فعل اللاعبين بالاستهزاء والسخرية لتناهي غفلتهم وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور، والتفكر في العواقب
{لاهية} أي: غافلة معرضة {قلوبهم} عن ذكر الله.
تنبيه قوله تعالى: وهم يلعبون لاهية قلوبهم حالان مترادفتان، أو متداخلتان، ولما ذكر تعالى ما يظهرونه في حالة الاستماع من اللهو واللعب ذكر ما يخفونه بقوله تعالى عطفاً على استمعوه: {وأسروا} أي: الناس المحدّث عنهم {النجوى} أي: بالغوا في إسرار كلامهم، وقوله تعالى: {الذين ظلموا} بدل من واو وأسروا للإيماء بأنهم ظالمون فيما أسروا به أومبتدأ والجملة المتقدمة خبره، والمعنى: وهؤلاء أسروا النجوى، فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم، وقيل: جاء على لغة من قال: أكلوني البراغيث وقيل: منصوب المحل على الذم، ثم بيّن تعالى ما تناجوا به بقوله تعالى: {هل} أي: فقالوا في تناجيهم هذا، معجبين من ادعائه النبوّة مع مماثلته لهم في البشرية هل {هذا} الذي أتاكم بهذا الذكر {إلا بشر مثلكم} أي: في خلقه وأخلاقه من الأكل والشرب، والحياة والممات، فكيف يختص عنكم بالرسالة ما هذا الذي جاءكم به مما لا تقدرون على مثله إلا سحر لا حقيقة له، فحينئذٍ تسبب عن هذا الإنكار قولهم: {أفتأتون السحر وأنتم} أي: والحال أنكم {تبصرون} بأعينكم أنه بشر مثلكم، فكأنهم استدلوا بكونه بشراً على كذبه في ادعاء النبوة والرسالة