راعيت مصلحتك قبل سؤالك فكيف لا أعطيك مرادك بعد السؤال ثانيها: إني كنت ربيتك فلو منعتك الآن كان ذلك ردّاً بعد القبول وإساءة بعد الإحسان فكيف يليق بكرمي ثالثها: إنّا أعطيناك في الأزمنة السالفة كل ما احتجت إليه ورقيناك الدرجة العالية وهي منصب النبوّة فكيف يليق بمثل هذه التربية المنع عن المطلوب فإن قيل: لم ذكر تلك النعم بلفظ المنة مع أنّ هذه اللفظة مؤذية والمقام مقام تلطف؟ أجيب: بأنه إنما ذكر ذلك ليعرف موسى عليه السلام أنّ هذه النعم التي وصل إليها ما كان مستحقاً لشيء منها بل إنما خصه الله تعالى بها لمحض فضله وإحسانه، فإن قيل: لم قال مرّة أخرى مع أنه تعالى ذكر منناً كثيرة؟ أجيب: بأنه لم يعن بمرّة أخرى واحدة من المنن لأنّ ذلك قد يقال في القليل والكثير، ثم بيّن تلك المنة وهي ثمانية أولها قوله تعالى:

{إذ أوحينا إلى أمّك} وحياً لا على وجه النبوّة إذ المرأة لا تصلح للقضاء ولا للإمامة ولا تلي عند أكثر العلماء تزويج نفسها فكيف تصلح للنبوّة ويدل على ذلك قوله تعالى: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحى إليهم} (النحل، 43)

والوحي جاء لا بمعنى النبوّة في القرآن كثيراً قال تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل} (النحل، 68)

{وإذا أوحيت إلى الحواريين} (المائدة، 111)

ثم اختلفوا في المراد بهذا الوحي على وجوه:

أحدها: أنه رؤيا رأتها أمّ موسى وكان تأويلها وضع موسى في التابوت وقذفه في البحر وأنّ الله تعالى يردّه عليها.

ثانيها: أنه عزيمة جازمة وقعت في قلبها دفعة واحدة.

ثالثها: المراد خطور البال وغلبته على القلب، فإن قيل: هذه الوجوه الثلاثة يعترض عليها بأنّ الإلقاء في البحر قريب من الإهلاك وهو مساوٍ للخوف الحاصل من القتل المعتاد من فرعون فكيف يجوز الإقدام على أحدهما لأجل الصيانة عن الثاني؟ أجيب: بأنها لعلها عرفت بالاستقراء صدق رؤياها فكان الإلقاء في البحر إلى السلامة أغلب على ظنها من وقوع الولد في يد فرعون.

رابعها: لعله أوحى إلى بعض الأنبياء في ذلك الزمان كشعيب عليه السلام أو غيره ثم إنّ ذلك النبيّ عرفها إمّا مشافهة أو مراسلة واعترض على هذا بأنّ الأمر لو كان كذلك لما لحقها الخوف. وأجيب: بأنّ ذلك الخوف كان من لوازم البشرية كما أنّ موسى عليه السلام كان يخاف فرعون مع أنّ الله تعالى كان أمره بالذهاب إليه مراراً.

خامسها: لعل بعض الأنبياء المتقدّمين كإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام أخبروا بذلك الخبر وانتهى ذلك الخبر إلى أمّه.

سادسها: لعلّ الله تعالى بعث إليها ملكاً لا على وجه النبوّة كما بعث إلى مريم في قوله: {فتمثل لها بشراً سوياً} (مريم، 17)

وأمّا قوله تعالى: {ما يوحى} فمعناه ما لا يعلم إلا بالوحي أو ما ينبغي أن يوحى ولا يخلّ به لعظم شأنه وفرط الاهتمام ويبدل منه

{أن اقذفيه} أي: ألقيه {في التابوت} أي: ألهمناها أن اجعليه في التابوت {فاقذفيه} أي: موسى بالتابوت {في اليمّ} أي: نهر النيل {فليلقه اليمّ بالساحل} أي: شاطئه والأمر بمعنى الخبر والضمائر كلها لموسى فالمقذوف في البحر والملقى إلى الساحل هو موسى في جوف التابوت حتى لا تفرّق الضمائر فيتنافر النظم الذي هو أمّ إعجاز القرآن والقانون الذي وقع عليه التحدي ومراعاته أهم ما يجب على المفسر

تنبيه: اليمّ البحر والمراد به هنا نيل مصر في قول الجميع واليمّ اسم يقع على النهر والبحر العظيم قال الكسائي والساحل فاعل بمعنى مفعول سمي بذلك

طور بواسطة نورين ميديا © 2015