التفات من الغيبة إلى التكلم.
والاستعانة طلب معونة وهي: إمّا ضرورية أو غير ضرورية، فالضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوّره وحصول آلة ومادّة يفعل بها فيها وعند استجماع ذلك يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل، وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي أو يقرّب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف غالباً وقد يتوقف كأكثر الواجبات المالية.
فإن قيل: لم أطلقت الاستعانة؟ أجيب: بأنها إنما أطلقت لأجل أنها تتناول المعونة في المهمات كلها أو في أداء العبادات واستحسن هذا الزمخشريّ قال: لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض.
تنبيه: الضمير المستكن في نعبد ونستعين للقارىء ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة أو له ولسائر الموحدين أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعل عبادته تقبل ببركة عبادتهم وحاجته يجاب إليها ببركة حاجتهم ولهذا شرعت الجماعة في الصلاة.
فإن قيل: لم قدم المفعول؟ أجيب: بأنّ تقديمه للتعظيم والاهتمام به والدلالة على الحصر، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه نعبدك ولا نعبد غيرك وتقديم ما هو مقدّم في الوجود والتنبيه على أنّ العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولاً وبالذات ومنه إلى العبادة لا من حيث أنها عبادة صدرت عنه بل من حيث أنها نسبة شريفة إليه ووصلة بينه وبين الحق فإنّ العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه حتى أنه لا يلاحظ نفسه ولا حالاً من أحوالها إلا من حيث أنها ملاحظة له ومنتسبة إليه ولذلك فضل ما حكي عن حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: {لا تحزن إنّ الله معنا} (التوبة، 40) على ما حكاه عن كليمه موسى صلى الله عليه وسلم حيث قال: {إن معي ربي سيهدين} (الشعراء، 62) لأنّ الأوّل قدّم ذكر الله تعالى على المعية والثاني بالعكس.
{اهدنا الصراط المستقيم} بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال: كيف أعينكم فقالوا: اهدنا والهداية الدلالة بلطف ولذلك تستعمل في الخير.
فإن قيل: قال الله تعالى: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} (الصافات، 23) أجيب: بأنه وارد على التهكم.
تنبيه: هدى أصله أن يتعدّى باللام أو بإلى كقوله تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} (الإسراء، 9) {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (الأعراف، 175) فعومل معاملة اختار في قوله تعالى: {واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا} (الأعراف، 155) وقد يتعدى بنفسه كما هنا وهو حينئذٍ محتمل لإضمار الحرف ولعدم إضماره وهداية الله تعالى تتنوّع أنواعاً لا يحصيها عدد كما قال تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (إبراهيم، 34) (النحل، 18) ولكنها تنحصر في أجناس مرتبة، الأوّل: إفاضة القوى التي يتمكن بها المؤمن من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة والثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد، وإليه أشار تعالى حيث قال: {وهديناه النجدين} (البلد، 10) أي طريق الخير والشر وقال: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} (فصلت، 17) والثالث: الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب وإياها عنى بقوله تعالى: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا} (الأنبياء، 73) وقوله: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} (الإسراء، 9) والرابع: أن يكشف لقلوبهم السرائر ويريهم الأشياء