فقط إشارة إلى مبالغته في تعظيمها والرغبة عن الشيء تركه عمداً فأصر على ادعاء إلهيتها جهلاً وتقليداً وقابل قوله بالرفق يا أبت بالعنف حيث لم يقل يا بنيّ بل قال {يا إبراهيم} وقابل وعظه بالسفاهة حيث هدده بالضرب والشتم بقوله مقسماً {لئن لم تنته} عما أنت عليه {لأرجمنك} أي: لأقتلنك أو لأرجمنك بالحجارة حتى تموت أو تبعد عني أو بالكلام القبيح فاحذرني {واهجرني} أي: بعد عني بالمفارقة من الدار والبلد وهي كهجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أي: تباعد عني {ملياً} أي: دهراً طويلاً لكي لا أراك، وقيل: اهجرني بالقول ولا تخاطبني دهراً طويلاً لأجل ما صدر منك من هذا الكلام وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم وتأسية فيما كان يلقى من الأذى ويقاسي من قومه من العناد ومن عمه أبي لهب من الشدائد بأعظم آبائه وأقربهم به شبهاً، فلما سمع إبراهيم عليه السلام كلام أبيه أجاب بأمرين أحدهما أن

{قال} له مقابلاً لما كان منه من طيش الجهل بما يحق لمثله من رزانة العقل والعلم {سلام عليك} توديع ومتاركة أي: سلمت مني لا أصيبك بمكروه ما لم أؤمر فيك بشيء فإنه لم يؤمر بقتاله على كفره كقوله: {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} (القصص، 55)

{وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} (الفرقان، 63)

وهذا يدل على جواز متاركة المنصوح إذا ظهر منه اللجاج وعلى أنه يحسن مقابلة الإساءة بالإحسان ويجوز أن يكون دعاء له بالسلامة استمالة، ألا ترى أنه وعده بالاستغفار فيكون سلام برّ ولطف وهو جواب الحليم للسفيه كقوله تعالى: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} (الفرقان، 63)

ثم استأنف قوله: {سأستغفر لك ربي} أي: المحسن إليّ بأن أطلب لك منه غفران ذنوبك بأن يوفقك للإسلام {إنه كان بي حفياً} أي: مبالغاً في إكرامي مرّة بعد مرّة وكرّة في إثر كرّة وقد وفىّ بوعده بقوله المذكور في الشعراء: {واغفر لأبي} (الشعراء، 86)

وهذا قبل أن يتبين له أنه عدوّ لله كما ذكره في براءة، وثانيهما: أنه قال له انقياداً لأمر أبيه

{وأعتزلكم} أي: جميعاً بترك بلادكم وأشار إلى أنّ من شرط المعبود أن يكون أهلاً للمناداة في الشدائد بقوله {وما تدعون} أي: تعبدون {من دون الله} الذي له الكمال كله فمن أقبل عليه وحده أصاب ومن أقبل على غيره ولو طرفة عين فقد خاب وخسر {وأدعو} أي: أعبد {ربي} وحده لاستحقاقه ذلك مني ولم يقيد الاعتزال بزمن بل أشار إلى أنهم ما داموا على هذا الدين فهو معتزل لهم ثم دعا لنفسه بما ينبههم به على خسة مسعاهم فقال غير جازم بإجابة دعوته وقبول عبادته إجلالاً لربه وهضماً لنفسه {عسى أن لا أكون بدعاء ربي} المنفرد بالإحسان إليّ {شقياً} أي: كما شقيتم بعبادة الأصنام فإنها لا تجيب دعاءكم ولا تنفعكم ولا تضرّكم ولما رأى من أبيه ومعاشرته ما رأى عزم على غربة مشقة النوى مختاراً للغربة في البلاد على غربة الأضداد فكان كما قال الإمام أبو سليمان الخطابي:

*وما غربة الإنسان في شقة النوى

... ولكنها والله في عدم الشكل

*وإني غريب بين بست وأهلها

... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي

وحقق ما عزم عليه فبين سبحانه وتعالى تحقيق رجائه وإجابة دعائه فقال:

{فلما اعتزلهم} أي: بالهجرة إلى الأرض المقدّسة {وما يعبدون من دون الله} لم يضرّه ذلك ديناً ولا دنيا بل نفعه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015