وميز الأكثرية بقوله تعالى: {جدلاً} أي: خصومة، قال بعض المحققين والآية دالة على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جادلوهم في الدين لأنّ المجادلة لا تحصل إلا من الطرفين ولهذا قيل: أراد بالإنسان الكافر، وقيل الآية على العموم، قال ابن الخازن: وهو الأصح وكذا قال البغوي فعن عليّ رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنها ليلة فقال: ألا تصليان؟ فقلت: يا رسول الله أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً، وقال ابن عباس أراد النضر بن الحارث وجداً له في القرآن، وقال الكلبي: أراد به خلفاً الجمحي.
ولما بيّن سبحانه وتعالى إعراضهم بيّن موجبه عندهم فقال تعالى:
{وما منع الناس} أي: الذين جادلوا بالباطل الإيمان هكذا كان الأصل ولكنه عبر عن هذا المفعول الثاني بقوله: {أن يؤمنوا} ليفيد التجديد وذمّهم على الترك {إذ} أي: حين {جاءهم الهدى} أي: القرآن على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وعطف على المفعول الثاني معبراً بمثل ما مضى لما مضى قوله تعالى: {ويستغفروا ربهم} أي: لا مانع لهم من الإيمان ولا من الاستغفار والتوبة.
ولما كان الاستثناء مفرغاً أتى بالفاعل فقال: {إلا أن} أي: طلب أن {تأتيهم سنة الأوّلين} أي: سنتنا فيهم وهي الإهلاك المقدّر عليهم {أو} طلب أن {يأتيهم العذاب قبلاً} أي: مقابلة وعياناً وهو القتل يوم بدر، وقيل عذاب الآخرة وقرأ الكوفيون برفع القاف والباء الموحدة والباقون بكسر القاف وفتح الباء الموحدة.
ولما كان ذلك ليس إلى الرسول وإنما هو إلى الله تعالى نبه بقوله تعالى:
{وما نرسل المرسلين إلا مبشرين} بالثواب على أفعال الطاعة {ومنذرين} بالعقاب على أفعال المعصية فيطلب منهم الظالمون من أممهم ما ليس إليهم {ويجادل الذين كفروا} أي: يجدّدون الجدال كلما أتاهم أمر من قبلنا {بالباطل} من قولهم ما أنتم إلا بشر مثلنا ولو كنتم صادقين لأتيتم بما يطلب منكم مع أن ذلك ليس كذلك إذ ليس لأحد غير الله من الأمر شيء {ليدحضوا به} أي: ليبطلوا بجدالهم {الحق} أي: القرآن والمعجزات المثبتة لصدقهم {واتخذوا آياتي} أي: القرآن {وما أنذروا} أي: وإنذارهم أو والذي أنذروا به من العقاب {هزوا} أي: استهزاء وقرأ حفص بالواو وقفاً ووصلاً وحمزة بالواو ووقفاً لا وصلاً وسكن الزاي حمزة ورفعها الباقون ولحمزة في الوقف أيضاً النقل.
ولما حكى الله تعالى عن الكفار أحوالهم الخبيثة وصفهم بما يوجب الخزي بقوله تعالى:
{ومن أظلم} أي: لا أحد أظلم وهو استفهام على سبيل التقرير {ممن ذكر بآيات ربه} أي: المحسن إليه بها وهي القرآن {فأعرض عنها} تاركاً لما يعرف من تلك العلامات العجيبة وما يوجب ذلك الإحسان من الشاكر {ونسي ما قدّمت يداه} من الكفر والمعاصي فلم يتفكر في عاقبتها ثم علل تعالى ذلك الإعراض بقوله تعالى: {أنا جعلنا على قلوبهم} فجمع رجوعاً إلى أسلوب واتخذوا آياتي لأنه أنص على ذم كل واحد {أكنة} أي: أغطية مستعلية عليها استعلاء يدل سياق العظمة على أنه لا يدع شيئاً من الخير يصل إليها فهي لا تعي شيئاً من آياتنا، ودلّ تذكير الضمير وإفراده على أنّ المراد بالآيات