في الأزل وأنتم غافلون عن أحوال الأزل فإنه تعالى قال: ما أشهدتهم إلى آخره وإذا جهلتم هذه الحالة فكيف يمكنكم أن تحكموا لأنفسكم بالرفعة والعلوّ والكمال ولغيركم بالذل والدناءة بل ربما صار الأمر في الدنيا والآخرة على العكس مما حكمتم به. ولما قرّر تعالى أن القول الذي قالوه في الافتخار على الفقراء اقتدوا فيه بإبليس عاد بعده إلى التهويل بأهوال القيامة فقال:
{ويوم} التقدير واذكر لهم يا محمد يوم عطفاً على قوله وإذ قلنا للملائكة {يقول} أي: الله يوم القيامة لهؤلاء الكفار تهكماً بهم وقرأ حمزة بالنون والباقون بالياء {نادوا شركائي} أي: ما عبد من دوني وقيل: إبليس وذرّيته ثم بيّن تعالى أن الإضافة ليست على حقيقتها بل توبيخ لهم فقال تعالى: {الذين زعمتم} أنهم شركائي أو شفعاؤكم ليمنعوكم من عذابي {فدعوهم} تمادياً في الجهل والضلال {فلم يستجيبوا لهم} أي: فلم يغيثوهم استهانة بهم واشتغالاً بأنفسهم فضلاً عن أن يعينوهم {وجعلنا بينهم} أي: المشركين والشركاء {موبقاً} أي: وادياً من أودية جهنم يهلكون فيه جميعاً، وهو من وبق بالفتح هلك، نقل ابن كثير عن عبد الله بن عمر أنه قال: هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلال، وقال الحسن البصري: عداوة أي: يؤل بهم إلى الهلاك والتلف كقول عمر رضي الله تعالى عنه: لا يكون حبك كلفاً ولا بغضك تلفاً أي: لا يكن حبك يجر إلى الكلف ولا بغضك يجر إلى التلف، وقيل: الموبق البرزخ البعيد أي: وجعلنا بين هؤلاء الكفار وبين الملائكة وعيسى برزخاً بعيداً يهلك فيه الساري لفرط بعده لأنهم في قعر جهم وهم في أعلى الجنان.
ولما قرر سبحانه وتعالى ما لهم مع شركائهم ذكر حالهم في استمرار جهلهم فقال تعالى:
{ورأى المجرمون} أي: العريقون في الإجرام {النار} من مكان بعيد {فظنوا} ظناً {أنهم مواقعوها} أي: مخالطوها في تلك الساعة من غير تأخير ومهلة لشدّة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها كما قال تعالى: {إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً} (الفرقان، 12)
فإن مخالطة الشيء لغيره إذا كانت قوية تامّة يقال لها: مواقعة {ولم} أي: والحال أنهم لم {يجدوا عنها مصرفاً} أي: مكاناً ينصرفون إليه لأن الملائكة تسوقهم إليها والموضع موضع التحقق ولكن ظنهم جرياً على عادتهم في الجهل كما قالوا: اتخذوا الله ولداً بغير علم وما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة إن نظنّ إلا ظناً وما نحن بمستيقنين مع قيام الأدلة التي لا شك فيها، وقيل: الظن هنا بمعنى العلم واليقين.
ولما افتخر هؤلاء الكفار على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم وبيّن الله تعالى الوجوه الكثيرة أن قولهم فاسد وشبههم باطلة ذكر فيه المثلين المتقدّمين ثم قال بعده:
{ولقد صرّفنا} وأظهر نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم الدال وأدغمها الباقون {في هذا القرآن} أي: القيم الذي لا عوج فيه مع جمعه للمعاني {للناس} أي: المزلزلين والثابتين وقوله: {من كل مثل} صفة لمحذوف أي: مثلاً من جنس كل مثل ليتعظوا أو أنّا حولنا الكلام وصرّفناه في كل وجه من وجوه المعاني وألبسناه من العبارات الرائقة والأساليب المتناسقة ما صار بها في غرابته كالمثل يقبله كل من سمعه وتضرب به آباط الأبل في سائر البلاد بين العباد فتسر به قلوبهم وتلهج به ألسنتهم فلم يقبلوه ولم يتركوا المجادلة الباطلة كما قال تعالى: {وكان الإنسان أكثر شيء} يتأتى منه الجدال