كان للفارياق صاحب من الديار الشامية يتردد عليه. فلما وفد الخادم بالرسالة وتخت الثياب كان هو حاضرا. فقال للفارياق أنا أذهب معك إلى الخواجا ينصر فقد سمعت بذكره غير مرة واحبّ أن أراه. فقال له الفارياق ولكن لعل في الازواء إساءة أدب في حق المزور. فإن المدعو لا يليق به أن يستصحب أحداً معه. قال لابأس فإن هذه عادة الإفرنج فأما في مصر فيمكن للمدعو أن يستصحب أياً شاء. وللمستصحب أيضاً إذا لقي واحداً في الطريق من معارفه أن يستصحبه ولهذا أيضاً أن يستصحب آخر وللآخر آخر حتى يصيروا سلسلة أصحاب بحيث لا يكون في السلسلة حلقة أنثوية. وكلهم يكلمون المزور من دون محاشاة وينالون منه الإكرام ويترحب بهم. ولا يمكن أن يسأل أحداً منهم فيقول له وأنت ما حاجتك وأيّ كتاب وصاة عندك إليّ. وما اسم زوجتك أو أختك وما سنهن. وفي أي حارة يسكن كما تفعل أصحابك الإفرنج. فلا تخش من الرجل جبهاً. وبعد فإن لنا عليه دالة الأدب. فهي تغنينا عن دالة النسب. فأجابه إلى ذلك وسارا إليه معاً. والفارياق يرفل بثيابه وقد اتخذ له عمامة كبيرة. فتذكر يومئذ عمامته بالشام وسقطته تلك المشؤومة. فلما أستقر بمجلس المشار إليه بعد الترحيب والتلقي بالبشر والبشاشة. وبعد معاقبة أوحشتنا لآنستنا. ومداركة آنستنا لا وحشتنا، ومواترة سلامات طيبين، وموالاة طيبين سلامات، كما جرت العادة عند الخاصة والعامة. قال الخواجا للفارياق. قد سرّ قدومك إلى هذه الديار والله سبحانه وتعالى قد اسبغ عليَّ نعمته لأشركك فيها. فقد قال الشاعر:
قالوا البعال ألذّ شيء يشتهي ... فأجبتهم هذا ضلال بيّن
إسداء معروف إلى ذي حاجة ... أشهى وأبقى وهو أمر هيّن
على أني لا أقول أن بك حاجة إليّ لكني لحنت من شكواك انك محتاج إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع. وقد وجب عليّ القيام بما يسليك ما أنت معانيه. سواء كان ذلك بالمواساة أو بالنصيحة. ولاسيما إنه قد ظهر لي إنك منشم في طلب العلم. وقد عانيت القريض. ولكن في كلامك ما انتقدته عليك. وليس هذا وقت نقد وتقييد.
وإنما أسألك أي كتاب من الأدب قرأت. فابتدر صاحبه وقال قرأ كتاب بحث المطالب فقال له لقد عجلت في الجواب. فإن هذا الكتاب في النحو لا في الأدب. ألا إنكم يا تلاميذ الجبل تحسبون أن من قرأ هذا الكتاب فكأنما قد استوعب العربية كلها دون افتقار معه إلى شيء من كتب اللغة والأدب والشروح. وإن الطالب منكم إذا أراد أن ينمق كتابا أو خطبة فإنما يستعمل بعض أسجاع مبتذلة ساكنة الروّي. خيفة أن يلتبس عليه المرفوع بالمنصوب. ويتطالل إلى بعض استعارات باردة. وتشبهات جامدة. حشوها الألفاظ الركيكة والمعاني المتقلقلة مندون معرفة ما يستعمل من الفعل ثلاثيا أو رباعيا. وما يتعدى به من حروف الجرّ.