فلما بلغت هذه الرسالة إلى الخواجا المذكور وطالع ما شرح السلام من التشابيه المتكلفة لم يتمالك أن ضحك منها وقهقه وقال لبعض جلسائه ممن ألمّ بالأدب: سبحان الله قد رأيت أكثر الكتاب يتهوسون في إهداء السلام والتحيات للمخاطب كأنما مهدون له عرش بلقيس أو خاتم سيدنا سليمان. فتراهم يشبهونه بما ليس يشبه. ويغرقونه في الأغراق ويغلونه في الغلوِّ حتى يأتي مبلولاً محروقاً. وربما جاءوا بفرقتين متماثلين في المعنى كقول صاحب هذه الرسالة الآن ثمال المظلومين ملجأ المهضومين. ثم إذا انتقلوا من السلام إلى الغرض أجادوا الكلام إلى الغاية. وما أدري ما الذي حسن لأرباب فن الإنشاء أن يضيعوا وقتهم بهذه الاستعارات والتشبيهات المبتذلة وبنظم الفقر المتماثلة في المعنى أن العالم يتأتى له أن يبدي علمه بعبارة واحدة إذا كانت رشيقة اللفظ بليغة المعنى. وهذه ألف ومائتا سنة قد مضت وما زلنا نرى زيداً يلوك ما لفظه عمرو. وعمرا يمضع ما قاله زيد. فقد سرى هذا الداء في جميع الكتاب أما تفخيم المخاطب في العنوان بالأجل والأمجد والأسعد والأوحد وما أشبه ذلك فله وجه. وذلك أنه لم تجر العادة في بلادنا بأن يكون تبليغ الكتب على يد البريد. وإنما تبعث مع أشخاص ليست لهم خبرة بالطرق ولا بالديار فإنها كما لا يخفى عاطلة عن التسمية خطّا. فإذا حملها رجل لا يعرف القراءة طفق يسأل كما من لقبه في الطريق عن اسم المخاطب فأن لم يكن العنوان دالاً عليه التبس على القارئ فإن كثيراً من الناس مشتركون في الأسماء وإن كانوا مختلفين في المكارم والأخلاق وفضلاً عن ذلك فقد يتفق أن مبلغ الكتاب بعد أن يكون قد سأل غير واحد عن اسم المخاطب ووجدهم كلهم أميين. وبعد أن يكون قد أضاع نصف نهاره في البحث عن الطريق فلا يكاد يهتدي إليه إلا ويجد عونا يترصده حتى إذا لمحه تلقفه وبعثه إلى أحد الجهات التي أراد. فيبقى الكتاب عنده ثم ينتقل منه إلى غيره. وربما لقي غيره ما لقيه هو فينتقل الكتاب إلى آخر وهلم جرّا فكان لا بد من الاستقصاء من العنوان عن صفات المخاطب فقال له جليسه إذن يجب يا سيدي أن يذكر في العنوان جميع الصفات فيقال للمخاطب مثلاً إذا كان جميلاً كيِّساً غنياً رشيق القد كبير العمامة عريض الحزام. الجمل الكيس الغني إلى آخره. فقال أما وصف إنسان بالجمال والغني فهو من الموبقات لهز وأما بغير ذلك ككبر العمامة وعرض الحزام فليس من الصفات المخصصة إذ الناس في ذلك سواء. وما خالف ذلك فما أولاه بالاستعمال وستراه عن قريب مستعملاً إن شاء الله. وهو وأن يكن أحياناً من المضحكات وذلك كان تصف رجلاً مثلاً بالزبيبة والكثيفة والحنطاوية والشرنبثية والكرنيفية والزلهبية والزخزبية والسنطبية والعرزبية والعشجبية والعظيبية والجحوظية والأزطية والسناطية والفُسحمية والجهضمية والبرطامية والحثرمية إلا أنه أحسن من إيقاع اللبس في صفات المخاطب فقد بلغني أن كثيراً من الكتب التي تضمنت مقاصد مهمة لما لم يدل عنوانها بالنص والتوثيق على ذات المرسل إليه فُتحت ليعلم صاحبها. فكانت سبباً في ضرر المرسل والمرسل إليه انتهت محاورتها.
وأعلم هنا أن الخواجا المذكور لما بلغته لاوكة الفارياق كان مريضاً فلهذا لم يجبه على الفور فبقي الفارياق ينتظر جواباً أياماً حتى أعتقد أن سجعه كله ذهب باطلاً. إذ لم يكن يعلم السبب وكان في خلال ذلك دائم الفكر والقلق فإنا الان أدعه في هذه الحالة منتظر الجواب. وأدع صاحبه يتداوي حتى يطيب. وأعرّج قليلاً على منازل الألقاب وألقاب المنزلة المتعارفة وقتئذ بشرط أن تسمحوا لي بأن أنتقل إلى فصل آخر وهو: