من ذلك أن فيها دوانين عظيمين يقال لكل منهما الديوان المخدّمي. فالديوان الأول قيمته رجل يجهز للرجال ما يلزمهم لتبريد فرشهم من هو. والديوان الثاني وهو دونه في القدر والشأن قيمته امرأة تجهز ما يلزمهم لتسخنهم من هي. وأصل منشئ الديوان الأول عجميّ. وقد صار الآن من الشهرة والنباهة عند العرب بحيث إنك لا تزال تسمع بذكره والثناء عليه في كل مقام ولا يكاد يخلو منه مجلس أنس أو غناء أو أدب. ومن ذلك أن البرنيطة فيها تنمى وتعظم. وتغلظ وتضخم وتتسع وتطول وتعرض وتعمق. فإذا رأيتها على راس لابسها حسبتها شونة. قال الفارياق وكثيراُ ما كنت أتعجب من ذلك وأقول: كيف صح في الإمكان وبدأ للعيان أن مثل هذه الروس الدميمة. الضئيلة الذميمة. الخسيسة اللئيمة. المهينة المُليمة. المستنكرة المشئومة. المستقذرة المهوعة. المستقبحة المستفظعة. المستسمجة المستشنعة. المسترذلة المستبشعة. تقل هذه البرانيط المكرمة. وكيف إنماها هواء مصر وكبرها إلى هذا المقدار. وقد طالما كانت في بلادنا لا تساوي قارورة الفراش. ولا توازن ناقورة الفراش. وكيف كانت هناك كالتراب. فأصبحت هنا كالتبر. يا هواء مصر يا نارها يا ماءها يا ترابها ضيري طربوشي هذا برنيطة وأن يكن أحسن منها عند الله والناس وأفضل. وأجل وأمثل. وللعين أبهى وأكمل. وعلى الرأس أطبق. وبالجسم أليق. وغير ذي قرون تتملق لتتلمق. ويرزق عليها لترزق. قال فلم يغن عني النداء شيئاً وبقي راسي مطربشاً. وطرف دهري مطرفشاً. ومن ذلك أن قوماً من الهُككاء المهاكيك فيها يمرأون ويبرقعون لحاهم ويزاحمون ذوات البراقع على مورد الإناثية. فتراهم يتحففون ويهجلون ويتبازون ويوكوكون ويوزوزون ويباغمون وهم أقبح خلق الله. ومن ذلك أن لضابط البلد شفقة زائدة على أهلها تقرب من حد الظلم. وذلك أنه يأمر جميع السالكين قي طرقها ليلاً أن يتخذوا لهم فوانيس وإن كانت الليلة مقمرة. خفية أن يعثروا بشيء في أسواق المدينة فيسقطوا في هوة أو جبّ فتنكسر أرجلهم أو تندق أعناقهم. ومن وجد ليلاً يطوف من غير ذوي البرانيط وليس بيده فانوس غُلّت رجله إلى يده. ويده إلى عنقه. وعنقه إلى حبل. والحبل إلى وتد. والوتد إلى حائط. والحائط إلى ناكر ونكير. وتصلية سعير. ومن ذلك أن لبني حنا فيها أسلوباً في الكتابة لا يعرفه أحد إلا هم. ولهم حروف كحروفنا هذه إلا أنها لا تقرأ إلا إذا أدخلها الإنسان في عينه كذلك رأيتهم يفعلون. ومنها أنه إذا مات منهم أحد فلا يزال أهل الميت يندبونه وينوحون عليه حتى يؤوب إليهم ووطبه ملان من الطريخ. ومن خصائصها أيضاً أن البغاث بها يستنسر والذباب يستصقر. والناقة يستعبر. والجحش يستهمر. والهر يستنمر. بشرط أن تكون هذه الحيوانات مجلوبة إليها من بلاد بعيدة.
ومن ذلك أن كثيراً من أهلها يرون أن كثرة الأفكار في الرأس يكثر عنها الهموم والاكدار أو بالعكس. وأن العقل الطويل يتناول البعيد من الأمور. كما أن الرجل الطويل يتناول البعيد من الثمر وغيره. وأن تلك الكثرة سبب في الإقلال. وهذا الطول موجب لقصر والآجال. وأوردوا على ذلك براهين سديدة قالوا أن العقل في الرأس كالنور في الفتيلة. فما دام النور موقداً فلا بد وإن تنفذ الفتيلة ولا يمكن إبقاؤها إلا بإطفاء النور. أو كالماء في الوادي. فإذا دام الماء جارياً فلابد وأن ينضب أو ينصب في البحر فمتى حُقن بقي. أو كالفلوس في الكيس. فما دام المفلس أي صاحب الفلوس يمدّ يده إلى كيسه وينفق منه في ما عنده. إلا أن تربط يده عن الكيس أو يربط الكيس عن يده. أو كالتيس النازي. فإنه إذا دام نزوه نزفت مادة حياته فهلك فلا بد من نجفه. فمن ثم اصطلحوا على طريقة لتوقيف جريان العقل في ميدان الدماغ حيناً من الأحيان ليتوفر لهم في غيره. وذلك بشرب شيء من الحشيش أو بمضغة أو بالنظر إليه أو بذكر اسمه فحين يتعاطونه تغيب عنهم الهموم ويحضر السرور. وتولي الأحزان. ويرقص المكان. فمن يرهم على هذه الحالة ودّ لو يكتُب في زمرتهم ويدخل في دائرتهم وأن يكن قاضي القضاة. ومن ذلك أن طرقها لا تزال غاصة بالإبل المحملة فينبغي للسائر فيها إذا رآها مقبلة أن يخلي لها الطريق. لا فلا يأمن أن يفقد إحدى عينيه. وقد ينشأ عن هذا الزحام فوائد كما في حكاية المرأة التي سارت مع أمها لتحضر عرس أختها فطالعها من محلها.