واضطر ما لاقيت فيها قيعر قيعار. قدم إليها من بعض البلاد الحميرية وتعرف بجماعة من النصارى فيها. فصار يدخل ديارهم ويسامرهم. فلما لم يجد عند أحدهم كتاباً أقام نفسه بينهم مقام العالم فقال إنه يعرف علم الفاعل والمفعول وحساب الجمل. وأتخذ له كتباً بعضها من غير ابتداء وبعضها بغير ختام وبعضها مخروم أو ممحو. فكان إذا خاطبه أحد في شيء عمد إلى بعض هذه الكتب ففتحه ونظر فيه ثم يقول. نعم أن هذا الشيء هو من الأشياء التي اختلف فيها العلماء. فإن بعض مشايخنا في الديار الحميرية يتهجاه كذا. وبعضهم في الديار الشامية كذا. ولما يستقر رأيهم عليه فإذا استقر فلابد من أن يخبروني به. قال الفارياق وقد سمعت مرة من استفزه باعث من الشغل يسأله عن الوقت. فقال له ساعة وخمس دقائق أما الساعة فقد اشتق منها الساعي وعيسى. أما الساعي فلكون السعي كله يتوقف على الساعات. إذ لا يمكن لأحد أن يعمل عملاً خلوّاً من الوقت فإن جميع الأفعال والحركات محصورة في الزمان كانحصار- ثم أدار نظره ليشبهه بشيء فرأى كوزاً لبعض الصبيان. فقال كانحصار الماء في هذا الكُزّ. ثم رأى زنبيلاً لصبي آخر فقال أو كانحصار غداء هذا الولد في هذا الزّبيل. وأما عيسى فلكونه اشتمل على جميع المعارف والعلوم اشتمال الساعة على الدقائق. ثم أن قولي خمس دقائق معناه أربعة بعدها واحد أو ثلاثة قبلها اثنان ولك أن تعكس. وإنما قالوا خمس دقائق ولم يقولوا خمسة طلبا للتخفيف والعجلة في الكلام. فإن بطول الألفاظ يضيع الوقت. وقولي دقائق هو جمع دقيقة وهو مشتق من الدقيق للطحين. إذ بينهما شبه ومناسبة بجامع النعومة. ثم أن هناك ألفاظا كثيرة تدل على الوقت وهي المساء والليل والصبح والضحى والظهر والعصر والدهر والأبد والحين والأوان والزمن. أما الستّ الأولى ففيها فرق وأما الأخيرة فلا. فأعترضه رجل من أولئك الكبراء وقال قد رابني يا أستاذنا ما قلت. فإن كلا من جاريتي وستها لها فرق. فضحك الشيخ من حماقته وقال له أن كلامي هنا فيما حواه الزمان لا فيما حواه المكان. فسأله آخر قائلا أين جامع النعومة هذا الذي ذكرت أن فيه الدقيق. فضحك أيضاً وقال أعلم أن لفظة جامع تسمى عندنا معاشر العلماء اسم فاعل أي الذي يتولى فعل شيء أياً كان. لكني طالما عزمت على أن أناقشهم في هذه التسمية لان من يموت أو ينام مثلا لا يصح أن يقال فيه أنه فاعل الموت أو النوم. فقولي جامع على القاعدة المعلومة عندنا هو اسم لمن جمع شيئاً. حتى أن الكنيسة يصح أن يطلق عليها لفظ الجامع لأنها تجمع الناس. فلما قال ذلك اكفهرت وجوه السامعين. قال فسمعت بعضهم يجمجم قائلا: ما أظن الشيخ صحيح الاعتقاد بدين النصارى. فقد أصابت أساقفتنا في حظرهم الناس أن يتبحروا في العلوم ولا سيما علم المنطق الذي يذكره شيخنا. فقد قيل من تمنطق تزندق ثم أنصرف عنه الجميع مدمدمين. وسأله مرة قسيس عن اشتقاق الصلاة. فقال هي مشتقة من الأصلاء. لأن المصلي يحرق الشيطان بدعائه. فقال له القسيس إذا كان مأوى الشيطان سقر مذ ألوف سنين ولم يحترق فكيف تحرقه صلاة المصلي. فتناول بعض الكتب ليقتبس منه جواب ذلك فإذا به يقول قال أحد علماء الرهبان: الاحتراق على نوعين. احتراق حسي كمن يحترق بالنار. ومعنوي كمن يحترق بحب العذرة. ثم وقف وتأوه قائلاً: قد أخطأ سيدنا الراهب. لأن العذراء يجب مدها. فقال: القسيس وقد حنق عليه كيف يجب مدّها إذا لم تشأ. قال ويلي عليك أنت الآخر لا تعرف المدّ والقصر في الكلام وأطفال الحارة في بلادنا يعرفون ذلك. قال بلى أن اقتصار الكلام مع من يخطّي الرهبان مزية. ثم تولى من عنده مدمدماً. قال الفارياق وقال لي مرة قد يظهر لي ان حق استعمال دعا إذا أريد به معنى الصلاة أن يتعدى بعلي. فيقال دعوت عليه كما يقال صليت عليه. قال فقلت له لا يلزم على كون فعل يوافق فعلاً آخر في معناه أن يوافقه في التعدية. فغصَّ بذلك ولم يفهمه. وشكا إليه مرة رجل من معارفه إسهالاً آلمه. فقال له يغالطه أو يسليه أحمد الله على ذلك ليتني مثلك. قال كيف هو أن طال قتل وأسال الجسم كله. فقال له أنه منّة من الله. ألم تسمع كل ملهوف يقول يا رب سهل. فقال التاجر أنا ما عنيت التسهيل بل الإسهال. فقال هما بمعنى واحد لأن افعل وفعّل كلاهما يأتيان للتعدية. كما تقول أنزلته ونزّلته. ولأن كلاَ