وعنّ له يوما أن يمدح بعض ذوي السيادة والسعادة. فلما حظي بلثم أعتابه الشريفة وأنشده القصيدة رجع القهقري على عادة أهل بلاده من أن الصغير لا يري الكبير قفاه. إشارة إلى أنه لا قذال إلا قذال الكبير. ثم جاءه الحاجب يقول أن الأمير أدام الله دولته. وخلد صولته. وجعل الشمس والقمر نعلا لفرسه. وجعل يومه خيراً من أمسه. وجعل ظله ممدوداً على الأرض ظليلاً. وجعل طرف الكون بتراب نعله مكحولا. وجعل الثريا مقراً لرجليه والعيوق شراكاً لنعليه. وجعل الوجود باسمه مبتهجاً وبابه لكل لائذ رتجاً مرتجى. وجعل- فلم يتمالك الفارياق أن بادرهُ وقال دعني من جَعَل يا جُعل. ماذا يقول الأمير. قال يقول الأمير المعظم. الخطير المكرم. ذو الآلاء الغامرة. والنعم الوافرة. من إذا قال فعل وإذا سئل أعطى فأجذل وأذ تنحنح ألقى الرعب في قلوب أعاديه. وإذا سعل خفقت فرقا أفئدة شانئيه. وإذا مخط ارتج المكان لهيبته. وإذا حبق تزلزل المجلس لحبقته. فقال الفارياق أف لهذه الرائحة الخبيثة ياخبيث قل ما يقوله الأمير. وأرحني من هذا التقعير. لقد برزت على الشعراء بهذا الغلو والإطراء. قال أنه يقول لك أنك قد أحسنت في أبيات القصيدة وأبدعت ما شئت. لأنك شبهته بالقمر والبحر والأسد والسيف الماضي والطود الراسخ والسيل المنهمر مما هو خليق بالاتصاف به. إلاّ في بيت واحد جعلته فيه قواداً. قال كيف ذلك جلّ الأمير عن القيادة. قال نعم انك قلت أنه يجود بالمال والنفائس ويولي الأبكار. وقلت في بيت آخر أنه محمَّد الذكر محمود المناقب وهو غير محمد ولا محمود. وبسبب هذا الخطأ الفاحش حرمك من رؤيته. قال هذه عادة الشعراء انهم لا يزالون يتلمظون بذكر الخرائد والمحامد. وليس المقصود بذلك نسبة القيادة إلى الممدوح. قال هذا غاية ما عندي فلا تطمع بعد في المثول بحضرة أميرنا المبجل. فمن ثم رجع الفارياق محروماً من هذا المغنم الهنيء. وبلغ منه الغيظ أن أضله عن الطريق المستقيم. فسار في طريق آخر وما وصل إلى منزله إلاّ بعد اللتيَّا والتي. وأخذ يفكر في نحس طالعه وشؤم قلمه. فظهر لهوسه أن القلم أنحس شيء يتخذه الإنسان سبباً لمصالحه. وإن أشفى الاسكاف أنفع منه. وأن تقديم النون عليه في قوله تعالى ن والقلم وما يسطرون إن هو إلا إشارة إلى النحس. وإن ما قاله المنجم في طالعه صحيح. فأنه أوَّل المرأة التي زفّت إليه في المنام بالعقرب. والجدي بالتيس الذي كان ينطحه. والسرطان بنفسه إذ رجع القهقري من عند الأمير فكاد أن يعثر بحصير مجلسه السامي لولا أن تمسك ببعض أوتاده الشريفة. وأول الثور بالأمير الممدوح. إلا أن العبارة الأولى وهي قول المنجم نحس المنحوس غير محصورة في حادث واحد. إذ هي تستغرق جميع الأحوال والحوادث كما سيرد بيانه. وذلك أن الفارياق لما سمع من نجيه الذي قايضه على الاعتراف أن المساومة في قيل وقال هي من البياعات الرابحة، والأسباب الناجحة خلج في صدره أن يجرب تنفيق ما عنده من البضاعة المزجاة. إلا أنه لم يعرضها من أولَّ وهلة على أحد المشترين من الجثالقة كما فعل صاحبه. بل أخذ في تقليبها وتفليتها وتمشيطها وتنسيلها من جهة واستشفافها من أخرى. فظهر له أنها قديمة قد ركت بحيث لا يكاد أحد أن يرغب فيها.