لما فرغ الفارياق من علمه في كامبردج سافر إلى لندرة على عزم أن يرجع إلى الجزيرة واستصحب معه حمى نافضا. غير أن أحد الأطباء الخيرين في هذه المدينة نفضها عن ظهره ولم يتقاضه شيئاً. ثم أصيب الفارياقية بخفقاني القلب واللسان. فإنها كانت وقتئذ مهرت في لغة القوم. ثم أصيب هو بخفقاني العقل والرأي. وذلك إنه لما تصرمت مدة غيابه عن الجزيرة وأزف وقت رجوعه رأى أن العود إليها غير أحمد. لأن أحوالها تغيرت عمل كانت عليه من الخصب والبحبحة في المساكن. وتلك عادة الفارياق إنه لا يدخل بلداً خصيباً إلا ويفارقه ممحلا كما تقدمت الإشارة إليه. ولأنه فاته فيها بعض فوائد فحرم منها لطول غيابه. فمن ثم قصد مدينة اكسفورد ومعه كتاب توصية إلى أحد أعيانها وعلمائها وهو من أهل الكنيسة. فرأى الوصول إليه متعذراً فإن العلماء في هذه المدينة ليسوا كعلماء مصر في رقة الجانب وبشاشة اللقاء. بل هم أشد فظاظة من العامة. وعندهم إن الغريب لا يأتي إلى بلادهم إلا والشلاّق على عاتقه. ولذلك لما ذهب الفارياق ذات ليلة ليرى بعض هؤلاء العلماء صادفه أحدهم بباب المدرسة فقال له: من تقصد؟ قال فلانا. قال أين تسكن؟ قال في محل كذا. قال أعندك دراهم لتفي أجرة المسكن. قال ما أنا بمطران ولا راهب حتى تزعمني أني قدمت إليكم متسولاً.
ثم لما تعذر عليه الوصول إلى جناب ذلك القسيس المعظم ولم يجد فيها أهلاً للخير سوى رجل من الطلبة يسمى وليم سكولتك Williams Scoltock وآخر من التجار كان الفارياق اشترى منه قطعة حبل ليربط بها صندوقه فأبى التاجر أن يأخذ منه ثمنها فكأنه ظن الفارياق لم يشترها إلا بعد أن استخار الله في أن يخنق بها نفسه. رجع إلى لندرة وفاوض زوجته في ذلك فقالت له أن الجزيرة أقل خيراً من أكسفورد وإني مللت منها كل الملل. فقد أضعنا فيها زهرة عمرنا ولم نحصل منها على ثمرة. فما الرأي أن نعود إليها. فقر رأيه حٍ على أن يستعفي من خدمته فيها وكتب كتاباً إلى كاتب سر الحاكم يؤذن بذلك. ثم أشتد بالفارياقية الخفقان فرأى إن مقامها بباريس خير لهما. وذلك لما شاع عند الناس إن هواء باريس أصح من هواء لندرة. وإن المعيشة فيها أرخص والحظ أوفر. إن الفرنسيس أبش بالغريب من الإنكليز وابر. وإن لغة العرب عندهم اكثر نفعاً واشهر. وغير ذلك من الأوهام التي تدخل أحياناً في رؤوس الناس ولا تعود تخرج إلا مع خروج الروح.
ولكن ينبغي قبل سفر الفارياق من هذه المدينة أن نعيد عليك بعبارة وجيزة وصف ما فيها من المحاسن والجود على أهلها أي على أهل الجمال. لتعلم هل رحيل الفارياق حلال أو حرام. وليكون ذلك وداعاً من الإنكليز. فإن الكتاب قارب أن يتم ولم يبق من مجال للإسهاب. لأني أخشى من أن يأتي هذا الكتاب الأخير اكبر من الأول فيكون ذلك موجباً للقدح فيَّ من وجهين. أحدهما إن مطالعيه يقولون إن المؤلف كان يؤلف الفصول في أوله قصيرة والآن ينشئها طويلة. فكأنه كان أولاّ غير ذي دربة بالتأليف أو أنه يريد أن ينسب إليه مضمون قولهم جري المذكيات غلاء. والثاني إنه كاد أن يلحق نفسه بالطرّادين وهو لم يشعر ولم يدر. فلقد مللنا من كلامه وإعادة قوله قيل وقال وكان وصار فهو قد تبوّأ صهوة الجدل منه وإليه. ولم يغادرنا نراجعه ونعترض عليه. فما جزاء الثرثار من المؤلفين إلا إلقاء كتابه في القمين.
قال الفارياق تصوّر في عقلك إنك ساكن في حارة من حارات لندره ذات صفين متوازيين متصاقبين متناوحين. في كل صف عشرون داراً. ولكل دار باب ولكل باب عتبة. وأمام كل عتبة درج أو وصيد مبلط. ثم مثل لعينك هداك الله أربعون بنتاً من الرُّمم النواهد. والجثم الخرائد. والعُبُن المواغد. والرَّجح الثوامد. ذوات التبهكن والمرافد. والمراضب والمشانب. والصلوتة والسجاحة. والاسولة والصباحة. واللباقة والملاحة. والكلثمة والترارة. والوثامة والنضارة. والوضاءة والبشارة. والقسامة والشارة. والطلاوة والوثارة. والوثامة والبضاضة. والطراوة والغضاضة. والغرض والمسألة. والملد والعبالة. ومن الزهر والغر والفر والصهب والصبح والصحر والعفر والفضح والمغر والادم والخلس والبره والوده والعين والنجل والشهل والبرج. والشكل والدعج والجود والبج والفرق والزج والجبه والبلج والبلد والذلف والخنس والشم واللعس والحو واللمى. ومن كلّ