وأقبح من ذلك أن كل واحد من الناس يظن أن غيره أيضاً يفعل كذلك فهو معذور عند نفسه بكونه حاذياً حذو غيره. ومثله قباحة شأن من تلبس الحداد على ميَّت لها وهي في خلال ذلك يزدهيها الرناء ويستخفها ذكر الذكران. وترتاح إلى رؤية اللون الأسود وتطربها نغمة القائل لها أن فلانا مشغوف بحبك. وأنك جديرة بأن تقعدي على منصبة وتأمري وتنهي الوصائف من حولك أو بالحري الوصفاء. وإن لا تتناولي شيئاً بيدك هذه الرخصة. وأن لا تخرجي من دارك ماشية على رجلك هذه اللطيفة. وأن لك في كل مكان عشاقاً كثيرين بحيث لا تعدمين في كل وقت من يحوطك ويخدمك ويلاطفك وينسيك حزنك. وغير ذلك من الكلام الذي هو انتهاك لحرمة كل من الموت والميّت. قال الفارياق قد رأيت كثيراً من النساء الحوادَّ في بلاد الإنكليز وغيرها وهن اكثر خفة وطرباً وازدهاء وضحكاً من العروس وأمها ولم أرَ بينهن من كانت تنظر إلى ثيابها السوداء إذا ضحكت لتتذكر أن كركرتها في غير محلها. أما في أمر الزواج فربما يطلب لهن الحليم عذراً بأن يقول مثلاً: لعل زوجها كان يخونها في الليالي الحالكة فترديها السواد إنما هو لتتذكر سوء أفعاله معها في سواد تلك الليالي. أو أن أيامها معه كانت كلها سوداً كالليالي. فأما في أمر الولد والأب وغيره فلا عذر لمن أحدت وهي مرارئة مهزقة. ثم أن المحدّ عند الإفرنج مطلوبة للرجال مرغوب فيها بمنزلة العروس. إذ الفحول يتزاحمون على تسليتها وتلهيتها لعلمهم بما تحت ذلك السواد. وبأن هذه العادة هي من جملة العادات التي خالف استعمالها وضعها. والظاهر أن لفظة المُحدّ في لغتنا هذه الشريفة مشتقة من حدّ السكين وأحدّها وحددها أي مسحها بحجر أو مبرد فحدّت تحدّ. فكأن لابسة الحداد تحدّ شهوة الناظر إليها إذ يرى عليها آثار الحزن والكآبة والانكسار وهو أشوق ما يكون في النساء. ويؤيده إن صنفاً من الثياب السود يسمى إِسباداً. وهذا الحرف يجيء أيضاً بمعنى حلق الشعر كالسبد وأنت بتمام المعنى أدرى. وتسمى أيضاً سلاباً والسليب هو المستلب العقل. فكأن المرأة إذا تسلبّت أي أحدَّت ولبست السَّلابا سلبت عقل ناظرها. فأول ما يقع نظره عليها يقع قلبه معه فيقول لها أو في نفسه. فديتك بأبي أنت وأمي. لله أنت. وقاك الله. وهبني الله فداك. إن شئت أن أكون أول من توسل لمحو هذا الحزن من صدرك فعلت فإني أنا أقْدر منك على تحمل المكاره. فالق عليَّ هذا الهمّ القادح وكوني أنت مهْنأة مسرورة. أن لدى آلة طرب عظيمة وخزعبيلات كثيرة تفرّج عنك الكرب. فلو زرتني مرة أو سمحت لي بأن أزورك لم يعد يخطر ببالك شيء من الأشجان. إنك رخصة رعبوبة وأرى هذا الخطب قاسحاً عليك فلا يزول إِلا بقاسح مثله. ليتك تعلمين ما عندي من الأسى والوجد لأجلك. وإني عتيد لأن أحرم نفسي من جميع المسّرات بحيث أراك تفترين عن ذلك الشنب الأشهى. وتبدين في خديك عند الضحك تلك النقرة التي طالما نقرت قلوب العشاق. أي قلب لا يذوب لهذا الانكسار. وأية عين لا تنزف الدمع على هذا الإزار. قدني حزناً لحزنك وحسبي أن أجلو عنك صدأ هذا الهم.
وكذلك المرأة المحدّ فإنها تعلم وهي ماشية ما يخطر ببال ذلك المشفق عليها فتقول له أو في نفسها. نعم والله إني محتاجة إليك لتخفف عني ما أجده اليوم من الوحشة والسدم. وقد بت البارحة وأنا غريقة في غريقة في بحر الأفكار والأكدار. واراك جديراً بأن تعاقرني وتسامرني وتعاشرني وتبادرني وتباكرني وتجاورني وتحاضرني وتخاصرني وتذاكرني وتساورني وتسايرني وتداورني وتشاعرني. فالحمد لله الذي هداني اليوم إليك وهداك إليّ وقيضك لي. لأني امرأة منكسرة الخاطر ولابدّ لي مَّمن ينفس عني ويؤنسني. حتى إذا نسيت ما أكابده وألمّ بك كرب كان عليّ أن افرج عنك فإن عندي مصدر اشتقاق الفرج. ومني تنال أتمّ الحبور، واعمّ السرور. فهلمّ إذا إلى المخالطة والمراوحة. والمساجلة والمكافحة. فهذا ما ينشأ عن لبس الحداد. ولذلك كان كثيراً من النساء يؤثرون الثياب السود ثقة بأنها تقوم في تشويق من يلاقينه من الرجال مقام الحداد. ولذلك كانت الإفرنج أيضاً يحبون اللون الأسود في الملابس ولا يتجاوزونه. ولذلك كان لباس القسيسين والأئمة أسود.