وبعد فقد تركنا لكم اللغة تتصرفون فيها كيفما شئتم فلم لا تتركون لنا خواطرنا وأفكارنا وهي ليست من الحركة ولا السكون. فأما دعواك بالمزية والقفية فإني أخبرك خبر من لا يجمجم عليك رثاء أو حياء. إنه لا مزية للرجل على المرأة في شيء. إذ ليس من قفية للرجل إلا وللمرأة مثلها. فأما كفالته إياها فينبغي أن أقول لك هنا دقيقة قلّ من تنبه لها. وهي انه قد يجتمع مثلاً شخصان في شركة أو دعوة أو زواج ويكون قد تقرّر في بال أحدهما إن له منّة على صاحبه. وذاك الممنون عليه يعتقد باطناً وظاهراً إنه مظلوم. مثال الزواج ما إذا كانت البنت قبل زواجها تهوى شاباً ولم يمكنها أن تتزوج به فتزوجت آخر. فرأت من أفعاله وأطواره ما انكرته، فيخطر ببالها ذلك الذي فاتها فتقول في نفسها لعله كان مستثنى من هذه الأخلاق. فلو إني تزوجت به لكنت الآن في اهنأ عيش وزوجها يظن إذ ذاك أنه أسدى إليها منة عظيمة بكونه تزوجها بعد أن فاتها خليلها الأول، فكان ينبغي للرجال والنساء أن يمنعوا النظر في أحوال الزواج قبل أن يرتقبوا فيه. وعلى الرجل أن لا يتزوج من كانت تهوى آخر قبله. وعلى المرأة أن لا تتزوج بمن كان يعاف الزواج خوف الإنفاق والإملاق. أو من كان يهوى أخرى وهو أعزب. ومثال الشركة ما إذا كان أحد الشريكين هو الذي قدم رأس المال من عنده وألقى عبء المصلحة على رفيقه، فكل منهما يحسب إنه ذو منة على شريكه. ومثال الدعوة ما إذا دعاك أحد إلى الغداء في العصر وكانت أن تتغذى في الظهر. أو إذا قدم لك من الطعام ما تعافه. فقد ركز في طبع كل إنسان إن يحسب ما يستحسنه هو حسناً عند غيره. أو إِذا تكرم عليك وقت الغذاء بفديرة وكسيرة وجريعة غير عالم أن المآدب تكبر معدته عند الآدب وتتسع أمعاؤه. أو إذا دعاك إلى منزله وكان بعيداً عن المدينة فلزمك أن تكتري مركباً بما يساوي غذائين وعشائين عنده. أو إِذا كنت مثلاً عند أحد أكابر الإفرنج لمصلحة له وعلم أنه قد مضى عليك عدة ساعات من غير أكل فأمر خادمه بأن يقدم لك لهنة من الخبز ومن هذا الجبن اللَّخْنيّ. وبك إذ ذاك قرم إلى أكل دماغه فأيكما والحالة هذه الممتنّ والممتن عليه. أو أن يكون أحد في خدمة أمير فالمخدوم يعتقد أن خادمه ممنون له لكونه يأخذ ماله.
والخادم يرى أن مخدومه هو الممنون لكونه يأخذ منه شبابه وصحته. أو أن يكون أحد قد زار صديقاً له ليسامره وبالمزور همّ وقلق فكل من الزائر والمزور يحسب إنه متفضل على صاحبه وقس على ذلك المعلم والمتعلم والمادح والممدوح والمغني والمغنى له. فمن ثم لا ينبغي للرجل أن يحسب أن مجرد إطعامه المرأة وإلباسه إياها منّة منه عليها. فإن حقوق المرأة أكثر من أن تذكر.
قلت قد لحنت ذلك على طوله وعرضه فقولي لي أي الرجال أحب إلى النساء. قالت أن أقل لك تعربد. قلت قولي لا بأس فإنما هو بساط حديث نُشر فلا يطوى حتى نصل إلى آخره. قالت يوم النشر إذاً. فاعلم إن الكاعب من النساء تحب الغلمان والإحداث بشرط كونهم حسانا. والمُعصر تحب الشبان بالشرط المذكور. وقد تأنس بالكهل اعتقاد أن يكون بها أرفق وأعشق. ولكن ذلك لا يسمى محبة لأنه يؤول إلى نفع نفسها. ومن شرط المحبة أن تكون مجردة عن الاستنفاع. ولكن هيهات فإن كل محب إذا تحقق دوام حرمانه من محبوبه وعدم الانتفاع به ملَّه بل ربما كرهه فعلى هذا فالمحبة عندي لفظ يرادفه الفائدة. فقول القائل أنا أحب فلانة حقيقة معناه أنا استفيد منها. فأما العانس فتحب الصنفين المذكورين ومن جاوزهما في السن قليلاً بالشرط المذكور. وإما النَّصف فتحب الثلاثة والكهل أيضاً بذلك الشرط. وأما العجوز فتحب الجميع.
قلت ما قولك في الشوارب. قالت هي زينة الفم كما أن الحواجب هي زينة العيون. قلت وفي اللحى. قالت حلى الشيوخ. قلت وفي العارضين. قالت بخ بخ هما زينة الناظر والمنظور إليه. قلت أي حسن فيهما وخصوصاً مع حلق الشاربين قالت هما بمنزلة الأكمام للزهر. أو الورق للغصن. أو القطيفة للثوب. أو السياج للحديقة أو الهالة للقمر.