وهنا ينبغي أن نلاحظ مزية الكرم التي خص الله تعالى بها جيل العرب دون سائر الأجيال. وذلك أن استدعاء الولي إليه لم يكن لجميع من دبّ ودرج بمنزل الفارياق بل كان خاصاً به وحده إلا أنه بلغ مسامعه الكريمة قدوم مادحه بأهله لم يستأ من ذلك ولم يقل ما أقل أدب هذا المدعو وما أصفق وجهه لقدومه علينا مزوياً. ولم يقل لربانه قد خالفت القوانين السياسية والأوامر الملوكية فلننزعن عن كتفيك هدّاب منصبك حتى تكون عبرة لمن أعتبر. بل يقي الربان متشرقاً بهدّابه. والفارياق متمتعاً بأهدابه. وبوّئ أكرم مبوّأ في داره أمير البحر وأجرى عليه الرزق الكريم. والخير العميم. ولو أن أحد أعيان الإفرنج دعا شخصاً وأتاه ذلك الشخص ومعه غير نفسه لجبهه عند اللقاء بل لم يكن ليلقاه قط. لا بل نساؤهنّ لما كان يدعون الفارياق كن يقلن لها أنك أنت المدعوة فقط إشارة إلى عدم إزوائها بخادمتها وطفلها. وليت شعري أين من تكرم من ملوكهم بإرسال بارحة لاستحضار شاعر ولغمره إياه بالمال والهدايا النفيسة. فلعمري أن مادح ملوكهم لا جائزة له من عندهم غير تسفيهه وتفنيده. مع أنهم أشد الخلق حرصاً على أن يشكرهم الناس ويمدحوهم. ولكنهم يأنفون من أن يمدحهم شاعر يريد نوالهم فلمن هذا المال الذي يدّخرونه. ولأية داهية من الدواهي يعتدونه. وهم الطاعمون الكاسون. الحاسون اللاسون. أم يخشون أن يلمّ بهم ضفف أو قشف. أم يحسبون أن صلة الشاعر من السرف. ولهذا أي لكون الكرم مزية خاصة بالعرب لم ينبغ في أمة من الأمم شعراء مفلقون كشعرائهم على اختلاف الأمكنة والأزمنة. وذلك من زمن الجاهلية إلى إنقراض الخلفاء والدولة العربية.
فإن اليونانيين يفتخرون بشاعر واحد وهو أواميروس Homere والرومانيين بفرجيل Virgilius والطاليانيين بطاسو Tasso والنمساويين بشلَر Schiller والفرنسيس براسين وموليير Racine et Moliere والإنكليز بشكسبير وملطون وبيرون Shakespeare Milton et رضي الله عنهyron. فأما شعراء العرب المبرزون على جميع هؤلاء من أن يُعدّوا. بل ربما كان في عهد واحد في زمن الخلفاء مائتا شاعر كلهم بارع فائق. وذلك لأن اللهى كما قيل تفتح اللهى. على أنه لا مناسبة بين الشعر العربي وشعرهم. لأنهم لا يلتزمون فيه الرويّ والفاقية وليس عندهم قصيدة واحدة على قافية واحدة ولا محسنات بديعية مع كثرة الضرورات التي يحشون بها كلامهم. فنظمهم في الحقيقة أقل كلفة من نثرنا المسجّع. وما أحد من الشعراء الأفرنج إستحق أن يكون نديماً لملكه. فغاية ما يصلون إليه من السعادة والحظوة عند ملوكهم إنما هو أن يرخَّص لهم في إنشاد شعرهم في بعض الملاهي. فأي هوان يلحق جناب الملك المعظم من اتخاذه نديماً وكليماً. أم يقال أن شعراء الإفرنج كثيرون بحيث لا يمكن لملك أن يختار واحداً منهم على غيره. أروني أين هم هؤلاء الكثيرون على خزنته السعيدة. كم في بلاد الإنكليز الآن من ناثر. وكم في بلاد فرنسا من ناظم. وهنا ينبغي أيضاً أن أضف ملاحظة أخرى فأقول. أنه قلما ينبغ شاعر عربي أو عجمي ويعجب الناس جميعاً. فأن من الشعراء من يحب الكلام الجزل الفخم دون ابتكار المعنى. وبعضهم يعني بالمعاني دون الألفاظ. وبعضهم يتحرى اللفظ الرقيق والعبارات المنسجمة. وبعضهم الغزل وغير ذلك. ولا تكاد تجتمع هذه المزايا في شاعر واحد أو تجتمع عليها أخلاق الناس كلهم. فإن من كان من بني نظري ذبَّ الرياد شحما لحِما مُخضعا متصندلا زير النساء وخلبهن وشيْعهن ونِسأهن وحِدْثهن وطلحهن وطلبهن وخدنهن وعلهن ورنْوهن وحُرْ قوصهن فأقحا إياهن حيث سرن. وكارزا لهن أيان برزن، لاتهمه الحماسة ولا منازلة الأقران. فعنده أن قال أمرؤ القيس:
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له ... بشق وتحتي شقها لم تحوّل
أحسن من قول عنترة:
فطعنته بالرمح ثم علوته ... بمهند صافي الحديدة مخِذم
ومن يكن عرْوا أو حصوراً أو عتولاً مُقطَعاً أو متأبداً أو عنكشاً عثيلاً أو صيقماً صمكمكا كيْكآ ليس به حمضة إلى العبهرة العجنجرة والعياذ بالله من ذلك. صرف ذهنه إلى الزهديات والحكميات. انتهى.