وأنه بعد جولان عدة قرى ليس فيها من مأوى ولا قرى. وبعد مجادلات مع الشارين طويلة. ومحاولات ومصولات وبيلة قنع الفارياق وشريكه من الغنيمة بالإياب. ورضيا باللقاء والعود إلى المآب. وعلما إن البئر الفارغة لا تمتلئ من الندى. وإن التعب في تجارتهما يذهب سدى. فتسببا في بيع البضاعة بقيمتها كيلا يشمت بهما من ينظرهما راجعين بماهيتها. وباتا تلك الليلة خالي البال من القليل والقال. فإن من الناس من لا يعجبه شراء شيء إلا بعد تقليبه. وبعد تحميق بائعة وتكذيبه. فلا بد للبائع من أن يكون عن مثل هؤلاء متصاما متغافلا متعاميا متساهلا. وتلك خلة لم تكن في الفارياق ولا في صاحبه. فإن كلا منهما كان يحاول استمالة الكون إلى جانبه. ثم إنهما رجعا بثمن البضاعة وبالحمار وسلما المال لصاحبه. فعرض عليهما سلعة أخرى فأبيا. وتواعدا أن يجتمعا مرة أخرى للشركة في مصلحة أهم. وآثرا أن تكون في البيع والشراء. وقد جرت العادة بين الناس بأنه إذا تعاطى أحد عملا ولم ينجح به أول مرة لج به الشره إلى معاطاته مرة أخرى. إذ ليس أحد يرضى لنفسه نحس الطالع وشؤم الجد. وإنما ينسب حرفه فيما احترف به إلى بعض عوارض وطوارئ حدثت له. فيقول في نفسه لعل هذه العوارض لا تقع هذه المرة. وعلة ذلك كله اعتماد الإنسان على رشد نفسه وثقته بسعيه والركون إلى حدسه. وقد تهور في ذلك كثير من الخلق. وأكثرهم جنى على نفسه في التهافت على الرزق.
ثم إنه بعد مذاكرة طويلة بين الفارياق وصاحبه قرّر رأيهما على أن يستأجرا خاناً مدينة الكعيكات. حيث ترد القافلة منها إلى مدينة الركاكات فاستبضعا ما يلزم لهما من الميرة والأدوات ولبثا قسه يبيعان ويشتريان بما تيسر لهما من رأس المال وذنبه. فلم تمض عليهما وجيزة حتى انتشر صيتهما عند الواردين والصادرين. وعرف رشدها جميع المسافرين. فكان الناس يقصدونهما لاقتصادهما. وكثيراً ما أنتاب خانهما أهل الفضل والبراعة، والوجاهة والاستطالة. حتى كأنه كان حديقة يتفرّج فيها الميكروب.