ثم لبث الفارياق يتعاطى حرفته الأولى ومل منها ملل العليل من الفراش. وكان له صديق صدوق يراقب أحواله. فأجتمع به مرة وخاضا في حديث أفضى إلى ذكر المعاش. والتظاهر بين الناس بأحسن الريش فقر رأي كل منهما على إن الإنسان في عصرهما لا يعد إنسانا بفضله ومزيته. بل ببزته وزينته. وإن الناس المولودين من الخز والحرير والقطن والكتان المعلقين في أوتاد حوانيت التجار أعظم قدراً من الناس الماشين العارين عنها. وإن المرء إذا كان ضيق الصدر والرأس بحيث يكون واسع السراويلات واللباس كان هو النبه الآفق المشار إليه بالبنان. المحمود بكل لسان. فأجمعا رأيهما على أن يستبضعا بضاعة ويقصدا ترويجها في بعض البلاد استطلاعا لحال أهلها وتفرجا من كرب بالهما. فاكتريا حمارا لحمل البضاعة وهو لا يستطيع حمل جثته من الهزال والضوى فضلا عن علاوته. ولم يكن قد بقي فيه شيء شديد سوى نهاقة وزعاقة. فالأول للإسعاف. والثاني لمن ينخسه أو يلقي عليه الأكاف. ثم سار وهما يفصلان ثوب النجاح على قامة الآمال. ويقدران بساط الفوز على ندحه الآجال. فما بلغا طيتهما إلا والحمار على شفا جرف هار من رمقة. والفارياق أيضا زاهق الروح من تعبه وقلقله. نادم على ترك القلم الضئيل. مع ما كان ينفث به من الرزق القليل. ويومئذ عرف عاقبة الجشع وتبعة الرثع. وظهر له سفاه رأيه في الشراهة إلى ما يوجب نصب الأبدان. وبلبال الجنان. غير أن اللبيب من استخرج من كل مضرة منفعة. ومن كل مفسدة مصلحة. حتى إن في فقد الصحة لنفعا لمن رشد. وخيراً لمن قصد. إذ العليل وهو ممدود على وسادة. تقصر نفسه عن التمادي في فساده. وفي شهواته المنكرة وأهوائه الموبقة. فتقوى بصيرته والمرض ناهكه. ويملك سداده والألم مالكه. ويرضي الله والناس بما هو سالكه. وهكذا كانت حال الفارياق. بعد مقاساته تلك المشاق. فإنه لما أحس بضنك السفر. ولقي منه ما لقي من الضرر. تبين له إن شق القلم أوسع من حقائب البياعة. وإن سواد المداد أبهى من ألوان البضاعة. وإن في ترويج السلعة لمعرة دونها معرة الغدة والسلعة فجزم بأنه عند الإياب إلى وطنه يرضى بلين العيش وخشنه. ولا يبالي إن يكن ذا شارة رائعة أو طلالة رافعة. أو معيشة واسعة. بحيث لا يجوب أمصاراً. ولا يتلوا حماراً. أما وصف الحمار على أسلوبنا معاشرا العرب فإنه كان زبونا بليداً. حرونا عنيدا. تارزا قديدا. لا يكاد يخطو إلا بالهرواة. وإذا رأى نقطة ماء في الأرض ظنها بحرا ذا طفاوة فأجفل منها إجفال النعام. ووجل كما يوجل من الحمام. وإما على الطريقة الإفرنجية فإنه كان حمارا ولد حمار وأمه أتان من جيل كلهم حمير. وكان لونه يضرب إلى السواد. ومس شعره كمس القتاد مصلهم الأذنيين ولا نشاط. أعسم الرجلين بادي الأمعاط. أدرم أفوه. أد لم أقره. يفركح في بسه. ويرفس عند نخسه. ويكرف ويتمرغ. ويشغ ويبدغ لا تحيك فيه العصا. ولا يعمل فيه الزجر إذا عصى. ولا يتحرك إلا إذا أحس بالعلف وأن يكون زؤانا. ولا تظهر فيه الحيوانية إلا إذا رأى أتانا. فيريك ح سموها واستنانا. ونشاطا وصميانا، حتى كثيرا ما كان يقلب حمله. ويفسد عدله. وفيه خلة أخرى وهي أنه كان دائم الأحداث على قلة إِعمال ضرسه! مواصل الغفق في النجوة والخفق زيادة على نحسه فإن منشأة كان في بلاد يكثر فيها الكرنب والفجل والسلجم. واللفت والقنبيط كبعض بلاد العجم. فلهذا اعتاد على إخراج هذه الرائحة من صغره. وزادت فيه بازدياد عمره. فكان لا بد للماشي خلفه من سد أنفه والإكثار من أفه. وفي كلا الوصفين فإن رفقة هذا البهيم لم تكن أقل أذى من السفر الأليم.