وهنا ينبغي ذكر فائدة وهي أن كامبردج واكسفورد لما كانتا مشهورتين بمدارس العلم كما ذكرنا آنفاً وكان جلّ الطلبة فيهما من الأغنياء وفي كل منهما نحو ألفي طالب. كانت البنات الحسان من قرى الفلاحين المجاورة ينتبن سوق هاتين المدينتين لترويج ما عندهن من الصبى والجمال. فترى فيهما من الجمال الرائع والحسن الباهر مالا تراه في سائر المدن. غير أنه لكل ساقطة لاقطة. فلهذا كانت مشايخنا الطلبة ينظرون إلى من زاد به عدد أهل البلد نظر الهرّة التي يؤخذ منها جراؤها. فمن ثم ترحّل الفارياق عن هؤلاء السنانير وهرّاتهم لا سيما وقد ورد في الأمثال إذا دخلت أرض الحُصيب فهرول وأقام في لندن نحو شهر.
هاهي ذات التيه والدلال. الخاطرة على الفحول من الرجال. تنظر إليهم شزرا. وتجر أذيالها وشالها جرا. كما قلت من قصيدة
قامت تجر من الدلال ذيولا ... جرّا أضاف إلى العميد نحولا
وهي لا ترى لها من بينهم كفؤا. وتهلس منهم سخرية وهزؤا ألا فاذكري إن بينهم الأقوى الأقدر. الأسرى الأيسر. الأسرع الأعسر. الأقرش الأقشر. الأصرع الأعصر. الأسرد الأدسر. الأرشف الأشفر. الأبرز الأزبر. الذي إذا ضمّ زفرّ. وإذا شمّ نخر. وإذا هيج زأر. أو غمز بدر. وإذا رأى طبلا زمّر. أو ذات تدهكر دهشر. اذكري أن بينهم عربياً ذا غرام. وهيام وأوام. ومغازلة وبغام. ومداعبة وكعام. وتمشير وانكماش. واندساس في الأعشاش علام نتملقك وأنت معرضة كبرا. ونعدك فتتخذين كلامنا هترا. ألم تعلمي أنا إليك متودّدون. وعلى مثلك متعوّدون. كم من صعب رُضناه. ومتحكم أرضيناه. وأبي أملناه. وقرم أشبعناه. وجامح استوقفناه وشاك أشكيناه. وعاتب أعتبناه. وكم من متعنّتة آبت وهي شاكرة. ثم انثنت زائرة. ألا لا يغوينّك الشطاط إلى الشطط. والعَيَن إلى الشحط. والعيط إلى اللغط. وصهوبة الشعر. إلى إنكار القدر. وتفليج الثنايا إلى ألت المزايا. وتورد الخدين. إلى احتقار اللجين. وتفليك الكعب. إلى التيه والعجب. وبضاضة البشرة. إلى النهم والشره. وفعومة الساعدين. إلى عنجرة الشفتين. وجدل الساقين. إلى الاستنكاف من مض لناقد عين. وعميد غين. يكفتهما ويتطوق بهما أو يعتم بهما على زَنبهما. وينزه زغبهما عن الحلت والنتف. والحصّ والحفّ. وعن مسّ السقف. ألا ولا يضلنّك الجاهض من وراء الازدراء. ولا النافج من أمام إلى منع التحية والسلام. أن لدينا من المزر والفقاع. ما يروي كل مقاع. ويسكر كل ذات قناع. ومن الشوا، ما يزيل الخوا. ومن الدينار، ما ينفث في عقد الإزار. فيحلها حلاّ. ويبلّها بلاّ. فمن البل بلل. ومن الحل حلل. فبحق من أولاك هذه المحاسن. فتنة كل سامع ومعاين. إلا ما أحسنت في عشاقك الظنّ. وأقللت لهم من هذا التزليق والفتن. فكلهم إلى وصالك حنّ ومن وصلفك أنّ. وبعدُ. فإن هي إلا مرّة. فإن أحمدت اللقاء فاجعليها عادة وأنت على كل حال حرّة. وإلا فما أكثر طرق هذه المدينة وما أطولها. وما أوفر القادمين إليها. وما أوسع حوانيتها وساحاتها. وندحاتها وباحاتها: وحدائقها وغياضها. ومماشيها ورياضها. وما أبهج ملاهيها وملاعبها. وأجرى عجلاتها ومراكبها. وما ارحب كنائسها وما احفل مجالسها. وما اعمر مساكنه. وامخر سفائنها. فاجر فيها حيث يعجبك من هنا ومن هنا. كل امرئ يسعى ليدرك الهنا.
وبعد أن فرغ الفارياق من عمله في هذه المدينة الغاصة بالغواني سافر إلى باريس فأقام فيها ثلاثة أيام لا تكفي لمعرفة وصفها. فلهذا نضرب هنا عن ذكره فإن حق الوصف أن يكون مستوعباً. ثم سافر منها إلى مرسيلية ومنها إلى الجزيرة. وأتاح له الله بفضله العميم أن رأى زوجته في نفس الدار التي غادرها فيها. وقد كان يظن إنها طارت مع عنقاء مغرب أو مع الغنجول وبنى بها هذه المرة السادسة. فإن المرة الثانية كانت بعد قدومه من الشام والثالثة بعد رجوعه من تونس والرابعة بعد خروجه من المعتزل مع سامي باشا المفخم والخامسة بعد رجوعها من مصر. ثم أنشد:
من يُرد في زوجه ... ينكح أزواجاً عديدة
فليغب عنها زمانا ... يلقها عرسا جديدة