فأما أنت يا سيدي الغني فالأولى لك أن تسافر من مدينتك العامرة حتى ترى بعينك ما لم تره في بلدك. وتسمع بأذنيك ما لم تسمعه. وتخبر أحوال غير قومك وعاداتهم وأطوارهم وتدري أخلاقهم ومذاهبهم وسياستهم. ثم تقابل بعد ذلك بين الحسن عندهم وغير الحسن عندنا. ومتى دخلت بلادهم وكنت جاهلاً بلغتهم فلا تحرص بحقك على تعلم كلام الخنَى منهم أولا. أو تستحلي الأسماء من أجل المسمّيات. فأن كل لغة في الكون فيها الطيب والخبيث. إذ للغة إنما هي عبارة عن حركات الإنسان وأفعاله وأفكاره. ومعلوم أن في هذه ما يُحمَد وما يذم فأجلّك عن أن تكون كبعض المسافرين الذين لا يتعلمون من لغات غيرهم إلا أسماء بعض الأعضاء وعبارات أخرى سخيفة. لا بل ينبغي لك حين تدخل بلادهم سالماً أن تقصد قبل كل شيء المدارس والمطابع وخزائن الكتب والمستشفيات والمخاطب، أي الأماكن التي يخطب فيها العلماء في كل الفنون والعلوم فمنها ما هو معد للخطابة فقط ومنها ما يشتمل على جميع الآلات والأدوات اللازمة لذلك العلم. وإذا رجعت بحمده تعالى إلى بلدك فأجتهد في أن تؤلف رحلة تشهرها بين أهل بلادك لينتفعوا بها ولكن من دون قصد التكسّب ببيعها. ويا ليتك تشارك بعض أصحابك من الأغنياء في إنشاء مطبعة تطبع فيها غير ذلك من الكتب المفيدة للرجال والنساء والأولاد ولكل صنف من الناس على حدته. حتى يعرفوا ما لهم وما عليهم من الحقوق. سواء كانت تلك الكتب عربية أو معرّبة. ولكن أحذر من أن تخلط في نقلك عن العجم الطيب بالخبيث والصحيح بالمعتل. فإن المدن الغنّاء تكثر فيها الرذائل كما تكثر الفضائل. نعم أن من هؤلاء الناس لمن يأبى أن يرى أحداً وهو على الطعام. وإذا أضطر إلى رؤيته وهو في تلك الحالة فلا يدعوه للَوْس شيء مما بين يديه. لكن منهم من يدعوك إلى صرحه في الريف فتقيم فيه الأسبوع والأسبوعين وأنت الآمر الناهي. وأن منهم لمن يبخل عليك برد التحية. وإذا دخلت دار صديق منهم وكان في المجلس جماعة من أصدقائه لم يعرفوك من قبل فما أحد يتحلحل لك في القيام. ولا يعبأ بك ولا يلتفت إليك. لكن منهم من إذا عرفك أهتم بأمرك في حضورك وغيابك على حد سوى. وإذا ائتمنته على سرّ كتمه طول حياته. وإن منهم أن ينبزك بالألقاب أول ما يقع نظره على شاربيك ولحيتك أو على عمامتك أو يجذبك من ذيلك من وراء. ولكن منهم من يتهافت على معرفة الغريب. ويرتاح إلى الرفق به والإحسان إليه ويرى أجارته وحمايته فرضاً غليه متحتماً. وإن منهم لمن يسخر منك إذا رآك تلحن في لغته. ولكن منهم من يحرص على أن يعلمك إياها مجاناً أما بنفسه أو بواسطة زوجته وبناته. وعلى أن يعيرك ما يفيدك من كتب وغيرها ويرشدك إلى ما فيه صلاح أمرك وتوفيقك. وإن منهم لمن يحسبك قد وافيت بلاده تسابقه على رزقه فيكلح في وجهك وينظر إليك شزراً. لكن منهم من ينزلك في بلده منزلة ضيف يجب إكرامه واحترامه والذبّ عنه بحيث لا تفصل عنه وفي قلبك أدنى ألم من أهله. وإن منهم لمن يسخرك أن تترجم له أو تعلمه ثم لا يقول لك أحسنت يا مترجم أو يا معلم. لكن منهم من لا يستحلّ أن يكلمك من دون أن يؤدي إليك أجرة فتح فمك وضم شفتيك. وإن منهم لمن إذا اضطر إلى أن يدعوك إلى طعامه ثم أراك قد سعلت سلعة أو مخطت مخطة أو فنخرت فنخرة قال لزوجته ألا إن ضيفنا مريض. فلا ينبغي أن تكثري له من الطعام. فتقوم عن المائدة متضوراً ويمتنّ هو عليك بين معارفه بأنه صنع لك وليمة في عام كذا وشهر كذا ويوم كذا فيجعل تلك الليلة تاريخاً. لكن منهم من إذا عرف أنك مقيم في إحدى قرى بلاده حيث لا بيع ولا شراء ولا شيء ينال من البقول والأثمار بعث إليك من مباقله وحدائقه ما سد فاك عن الشكوى. كما كان دراموند يبعث إلى الفارياق حين قدر الله عليه بالسكنى في بعض تلك القرى فكانت شكواه منها تسمع مع دوي الريح.