استفتاء آخر: ما قول عمدة الأنام، عفا عنه الملك العلام في رجل تصدقه العجم. وتأخذ بكلامه في كل أمر أهّم. وتقّر عيون نسائهم بالنظر إلى لحيته، وسراويلاته وحليته. وكشرته وجلقته. وخرعته وجلعته. فيخلبهنَّ خلباً. ويأسرهنَّ غراما وحبا. ألف كتاباً أودعه من أخبار أهل بلاده أي بلادنا ما شاقهنَّ وأعجبهنَّ. وشهاهنَّ وعرّبهنّ. فمن جملة ذلك إنه شهد محفلاً حفيلاً، وعرسا جليلا، قد زين بالأنوار الزاهرة، والوجوه الناضرة، والمآكل القدية، والمشارب الهنية. والمشموشات الذكية. فلما شرع في زفاف العروس إلى بعلها. واستبشرت الوجوه بفتح قفلها، وإذا بمنشدين ومنشدات. ومطربين ومطربات. وقفوا بين يدي العروس. وعلى وجوههم سيماء الحزن والعبوس. وشرعوا ينشدون مرثية طويلة. في امرأة توفيت مذ سنين غير قليلة. فهل يصدق وصفه ويشفع له فيه خلبه الأعاجم وصرفه. وحزبه منهم وحلفه. وقدامه وخلفه. الجواب؟ لا يؤخذ بكلامه فيما افتراه. وإن كان له أخدان من العجم على عدة شعرات قفاه كما ورد.
لن تنفع الراوي الأفّاك شيعته ... من الأعاجم لا يدرون ما هذراً
مع أن كلام المؤلف لم يضرّ بأهل بلاده شيئاً يوجب التحزب عليه. فغاية ما يقال فيه انه نسبهم إلى وضع الشيء في غير محله. ولكن هذه عادتهم في التعنيت فلا يكاد يسلم منهم مؤلف. ولو أن صاحب هذا الكتاب المذكور قال للإنكليز أنَّ الرجال في بلاده يلبسون الليف والخوص. والنساءَ يتزينَّ بالخسف والشقف. ويتكلمن وأفواههنَّ مطبقة. وينظرن وعيونهنَّ مغمضة. ويسمعن وآذانهنَّ مسدودة. ويرقدن ساعة في الضحى. ونصف ساعة في الظهر. وساعة وربعاً في العصر. وساعتين إلا ربعاً في المساء. وثلاث ساعات إلا في الليل. لعدّوا ذلك منه أغراباً.
ومن هذا القبيل أي من قبيل استراق الإنسان مذام عشيرة دون محامده كان إظهار البصيرة أي علامة البكارة المشار إليها. فأنها عدوى سرت إلى نصارى المشرق من اليهود على ما ذكر في كتبهم. مع أن لهذا الجيل أيضاً فضائل كثيرة عرفوا بها من قديم الزمان إلى الآن. منها درايتهم بجمع الأموال والجواهر ومعاطاتهم الحرف الحقيقة اللطيفة كالصيرفية والنقد والقرض. وصبغ ما هو قديم من الثياب حتى يأتي جديداً. ومن ذلك حبّ بعضهم بعضاً بحيث أن الغريب فيهم من جنسهم لا يحتاج إلى أن يتكفف ما في أيدي الناس ممن سواهم. ولا يخاف أن يعوزه المال وهو بين ظهرانيهم فيتقوّت بالجذور. أو يكون خلطاً فقبيح عرضه للأجانب. بل يلقي في كل بلد نزله وكان فيه أناس من جيله أهلاً وسكناً. ومنها أنهم قد اصطلحوا على لغة يعتبرون بها عما يخطر ببالهم من المصالح المعاشية. ولا فرق بين يهودي من أقصى المغرب وآخر من أقصى المشرق في الأخلاق والأطوار والعادات والرأي. بخلاف النصارى فإن النصراني المشرقي إذا قدم إلى بلاد النصارى الغربيين فأول ما يحيونه عند رؤيتهم له قولهم هذا يهودي أو تركي. ثم هو إذا أحتاج إلى مبيت أو طعام من عندهم أبلغوه إلى رئيس ديوان البوليس فصانه هناك في موضع لا نور فيه ولا هواء إلى أن يقضي عليه القاضي. كما جرى هذه السنة على أمير القفّة الذي قدم من دير القمر إلى باريس. وأن يكن موسراً وجاء بلادهم للتفرغ عليها غبنه منهم وخدعه من خدع وسرقه من سرق وقامره من قمر حتى يرجع إلى وطنه منتوفاً مسلوخاً.