وكأني بمعترض هنا يقول ما فائدة هذا الخبر البارد. قلت أن وجود الطنابير في الجبل عزيز جداً كما ذكرنا. فإن صنعة الإلحان والعزف بالملاهي يسم صاحبها بالشين. لما في ذلك من التطريب والتصبي والتشويق. والقوم هناك يغلون في الدين ويحذرون من كل ما يلذ الحواس. لذلك لا يشاءون أن يتعلموا الغناء والعزف بإحدى آلات الطرب أو يستعملوا في معابدهم وصلواتهم كما تفعل مشايخ الإفرنج خشية أن يفضي بهم ذلك إلى الإلحاد. فعندهم إن كل فن من الفنون اللطيفة كالشعر والإيقاع مثلا والتصوير مكروه. ولكن لو أنهم سمعوا ما يتغنى به في كنائس مشايخهم المذكورين من الموشحات أو ما يعزف به على الأرغن من اللحون التي ولع الناس بها في الملاعب والمراقص ومحال القهوة استجلاباً للرجال والنساء، لما رأوا في الطنبور إثماً. فإن الطنبور بالنسبة إلى الأرغن كالغصن من الشجرة وكالفخذ من الجسم. إذ لا يسمع منه إِلا طنطنة وفي الأرغن طنطنة ودندنة وخنخنة ودمدمة وصلصلة ودربلة وجلجلة وقلقلة وزقزقة ووقوقة وبقبقة وفقفقة وطقطقة ودقدقة وقعقعة وفرقعة وشخشخة وجرجرة وغرغرة وخرخرة وقرقرة وبربرة وطبطبة ودبدبة وكهكهة وقهقهة وبعبع وبعبعة وزمزمة وهمهمة وحمحمة وغطمطة وتأتأة ودأدأة وضأضأة ويأيأء وقأقأء وصهصلق وجلنبلق وغطيط وجخيف وفحيح وحفيف ونشيش ورنين ونقيق وطنين وعجيج وأرير ودوي وخرير وأزيز وهرير وصريف وصرير وشخب وصي وموا وغاق غاق وغق غق وطاق طاق وشيب شيب ومي ميء وطيخ طيخ وقيق قيق وخازباز وخاق باق. فإين هذا كله هداك الله من طن طن. فإن قيل إن الرغبة عن العزف به إنما هو لكونه يشبه الإلية. قيل فما بال النساء يدخلن الكنائس وعلى رؤوسهن هذه القرون الفضة وهي تشبه فنطيسة الخنزير أجلّك الله عن ذكره. وفنطيسة الخنزير أجلك الله عن ذكره تشبه كذا وكذا. فقد تبين لك إن اعتراضك غير وارد. وإن ذكر الطنبور كان في محله. فإن أبيت إلا العناد وتصديت لأن تخطئني وتعقبني بزلة وبغير زلة. وزمت أن تبدي للناس براعتك في الانتقاد عليّ أمسك عن إتمام هذا الكتاب. ولعمري لو إنك علمت سبب شروعي فيه وهو التنفيس عن كربك وتسلية خاطرك لما فتحت فاك عليّ بالملامة في شيء فقابل الإحسان أصلحك الله بالإحسان وأصبر عليّ حتى أفرغ من غزل قصتي. وبعد ذلك فإن لخاطرك إن تلقي بكتابي في النار أو الماء فافعل.
ولنعد الآن إلى الفارياق فنقول أنه أقام مع والدته في البيت يتعاطى النساخة. وأنه لم يلبث أن ورد عليه نعي والده في دمشق. فتفطر قلبه لهذا الفجع وود لو بقي الطنبور عند ناهبه. وكانت أمه تنفرد في كل صباح وتندب زوجها وتتحسر عليه وتذرف المدامع لفقده. فإنها كانت من الصالحات المتحببات لأزواجهن عن خلوص وداد وصدق وفاء. وكانت تظن أن أبنها لا يراها في انفرادها حتى لا يزيد حزنها برؤيتها إياه يبكي لبكائها. لكن الفارياق كان ينظرها في خلوتها ويبكي لوحشتها ووحدتها أشد البكاء. فإذا رجعت كفكف عبراته وتشاغل بالكتابة أو بغيرها. ومذ ذلك الوقت عرف أنه لا ملجأ له بعد الله غير كدّه فعكف على النساخة. غير إن هذه الحرفة مذ خلق الله القلم لا تكفي المحترف بها ولا سيما في بلاد لوقع قرشها طنين ورنين. ولرؤية دينارها تكبير وتعويذ إلا ذلك جود من خطه ورقق من فهمه.