أما ما كان من الخريجيين فإن مخرجهم أي مربيهم وكل بهم ذلك الرجل اللبيب. وأوعز إليه في أن يحظرهم عن الخروج عن الخروج وأن لا يدع أحداً من أقاربهم يدخل إليهم وأن يستخدم رجلاً ليشتري لهم ما يلزم من الخارج ولا يستلم منه شيئاً إلا بعد أن يغمسه في الحل أو يبخره بالشيح. وغير ذلك مما عرف في اصطلاح الإفرنج لمنع أسباب الوباء. وكان هذا الوكيل من مشاهير علماء ملته. وكان في مبدأ أمره كافراً لا يعتقد بدين من الأديان. لكنه كان حميد الخصال حسن الأخلاق. غير أن كفره حال بينه وبين رزقه فأضطر إلى أن ينحاز إلى الخرجيين من أهل بلاده ففرحوا بهدايته كثيراً وأحسنوا إليه إحساناً وفيراً فأنقلب هزله جداً وتمكنت منه الوساوس والأوهام حتى أعتقد أخيراً أنه أهل للكرامات والمعجزات. فكان يتمنى أن يسنح له فرصة لذلك. وأتفق في هذا الأوان أن مات بالطاعون ذلك الخادم الذي كان يشتري لوازم الدار. فلما جاء الدفانون ليحملوه أعترضهم الوكيل من داخل الدار فخافوا أن يخالفوه لكونه من الإفرنج فأنه لهم عند أهل مصر حرمة زائدة. ثم أنه مضى إلى موضع منفرد وجثاً على ركبتيه وهو يدعو الله سبحانه وتعالى لأن يحقق له صدق عقيدته. ثم فتح الباب وخرج وألقى نفسه على جثة الميت وجعل فمه في أذنه وهو يناديه قائلاً: يا عبد الجليل "اسم الميت" أني أدعوك باسم المسيح ابن الله لأن تعود من ظلمة الموت إلى نور الحياة. ثم أصغى ليستمع الجواب فلم يجبه أحد. فأشار إلى الدفانين أن اصبروا. ثم سار إلى ذلك الموضع الذي صلىّ فيه أولاً. وغير ركعته بأن جعل فمه بين فخذيه وهو يجمجم في الدعاء وذلك على منوال الياس النبي حين صلىّ لإنزال المطر بعد أن قتل أنبياء بعل. وكان عددهم أربعمائة وخمسين نبياً على ما ذكر في الفصل الثامن عشر من سفر الملوك الأول. إلا أن بين الداعيين فرقاً. وهو أن النبي صلى هكذا بعد القتل وصاحبنا هذا قبل الأحياء. وكان الأولى أن يرفع عبد الجليل إلى غرفة كما فعل النبي المذكور بابن الأرملة التي كانت تعوله. وكان دعاؤه إلى الله لإحيائه أن قال أيها العرب الهي أجلبت الشر أيضاً على هذه المرأة بقتل ابنها الخ. ثم أنه شبح يديه حتى صارت جثته على شكل صليب. ثم قام ناشطاً مسروراً وأسرع في أن ألقي جثته على الميت وأعاد في أذنيه كلامه الأول. فلما لم يجبه أحد ورأى الميت لم يزل مفتوح الفم مطبق الجفنين ولم يمشِ مرة هنا ومرة هناك ولم يعطس سبع عطسات كما عطس أبن المرأة الذي أحياه النبي اليشع على ما ذكره في الفصل الرابع من سفر الملوك الثاني، ذهب إلى المطبخ وأمر الطباخ بأن يصنع له مرقة على الفور. فلما صبت المرقة أقبل بها إلى عبد الجليل وجعل يفرغ منها في حلقه وذلك مشغول عنه بناكر ونكير. فلما أعياه أمره أمر الدفانين أن يحملوه وقال ما عليّ ذنب في كوني لم أرد أن أبعثه وإنما الذنب عليه. ثم أقبل إلى حجرة الفارياق وقال له لا تؤاخذني يا خليلي بعجزي عن أحياء الخادم فإن زمن الانتشار لمّا يبلغ. ولكني لا أتراخى في عقيدتي بأن أفعل ذلك المرة الآتية إن شاء الله.