فقالت له إذا كان الأمر يا سيدي كما ذكرت فإني اختار قسيسا. قال أي وسواس وسوس إليك هذا الاختيار الذي ليس من الخير في شيء قالت أما أولا فلأن الناس لا يسيئون به الظن إذا رأوه داخلاً إليّ كل يوم. والثاني انه يقال ان مادّة القسيس متوفرة فيه. قال قد غويت ومع ذلك فإني أخشى منه على ولديّ فإنه ربما يغريهما بخلافي حالة كوني مخالفا له في معتقده فالأولى أن تختاري آخر. قالت أنت طبيب تعرف الصحيح من العليل والقوي من الضعيف فاختر لي ما تشاء فإني أرضى بكل ما ترضى به أنت. قال بارك الله فيك. ثم قبّلها من فرحه ووعدها بإنجاز عدته في اليوم القابل. وما كاد يسفر الفجر إلا وهو فوق حماره يقصد بعض أصحابه. فلما اجتمع به قال له أن لي عندك حاجة جئت التمسها منك. قال قل لي ما بدا لك. قال علي شرط أن لا تخيّبني. قال سأبذل مجهودي كله أن شاء الله في قضائها. فأخذ يده حٍ توثيقا للعهد ثم قال له أني أريد أن تكون خليفتي في زوجتي. فقال له الرجل هل بدا لك سفر عن مصر وأن تترك زوجتك هنا قال لا وإنما تكون خلافتك عني في حضوري. فاستاء الرجل وقال أو خامرك ريب في صداقتي لك حتى أضمرت استطلاع سرّي. وخفي أمري. فعند ذلك صرَّح له بالقضية وألح في القدوم معه.
ولما قدما انعقد البيع بحضرة كلّ من الزوج والزوجة وتم التراضي. وصار الرجل مذ ذلك الوقت يتردد على دار الخلافة وبقي ذلك مدة. ثم أن الزوجة لما ملتّه كما هي عادة النساء وظهر له ذلك من قلة احتفالها به مرة ومن اعتذارها إليه أخرى. جرى هو أيضاً على عادة الرجال من أنه أفشى سرّها لصاحب له. فجرى هذا أيضا على جدد أمثاله وجعل يتودد إليها وقام عنده مقام الأول. ثم ملته فأفشى سرها، ثم جاءها آخر فقبلته. ثم آخر وآخر حتى صاروا جماعة عظيمة. ثم تراجع إليها أحبّاؤها الأولون وانهمكت في التبديل والتغيير حتى صارت دار الطبيب كالمشرعة. ولم تكن هذه القضية قد شهرت في مبادئها عند الجيران إذ كانوا يظنون القوم يأتون ليتداووا من علل بهم. ولكنها علمت بعد ذلك. وكان سببه أن الطبيب اتخذ له دارا أخرى خارج البلد ليصيف فيها وترك امرأته في الدار الأولى والزائرون على ما كانوا عليه من الورود والصدور فتنبه ح الناس لذلك.
وفي هذا الوقت أي ورود الخلق إلى هذا المغنم البارد كان الفارياق المسكين يتردد على منزل الطبيب ليعلم ابنه ويتداوى. فظن الناس أنه من جملة الزائرين. وتقلدوا إثمه في أعناقهم إلى يوم الدين. فإنه كان معطلا وفعله ملغى عن العمل. وبقي على تلك الحالة مدة من دون أن يرى فائدة من العلاج فكأن الطبيب أراد أن تطول المدة عليه إلى غاية تعليم ابنه. فمن ثم اقتصر الفارياق عن التردد إليه وتداوى عند غيره وشفي.
وفي خلال ذلك سافر إلى الإسكندرية لمصلحة ما. فاجتمع فيها بواحد من الخرجيين الصالحين. فسأله هذا أن يرجع معه إلى مصر ليعلم عنده بعض تلاميذ فأجابه إلى ذلك. وإنما رغب فيه لكون الخرجيين لا يؤخرون اجرة من يعمل لهم. وفي أثناء هذا عنّ له أن يقرأ علم العروض. فأخذ في قراءة شرح الكافي على الشيخ محمد. فما كاد يختمه حتى فشا الطاعون بمصر فاشتد بالمولى الخرجي الحرص على حياته إبقاء للمصلحة الخرجية كما زعم. فمن ثم رأى أن يتباعد عن وهدة الفخ قليلاً لكيلا ينطبق عليه فيفجع الخرجيون أمثاله بفقده سببا في فقد غيره. إذ قد تقرر عندهم ان شدة الحزن تميت. فجعل الفارياق مع الخريجين الخِرّيجيين ومع رجل لبيب ذي خبرة بالعلاج المانع من عدوى الطاعون. ثم استصحب ما لزم له وفرّ إلى الصعيد، وتفصيل ذلك في الفصل الآتي.