قالت فقلت له قد ضاع شعرك في الحمار العادي، كما ضاع الدرهم في المنادي. قال أما الدرهم فقد ضاع حقاً وأما الحمار فلا. قلت كيف ذلك والدار منه بلقع. قال من عادتي إني إذا فقدت شيئا وذكرته في الشعر خيّل لي أني عُوّضت عنه. فإن لم اذكره بقيت متحسراً على فقده. قلت أو يقوم النثر مقام النظم قال ربما يقوم عند بعض الناس. فقد بلغني أن كثيرا من المؤلفين كانوا يحاولون إدراك أوطار حرمهم منها قلة ذات اليد فألفوا فيها كتبا واستغنوا بها عنها. قلت من قال ذلك؟ قال هم قائلوه. قلت هذا محض كذب فإني الفّت في النساء كذا وكذا رسالة وما خطر ببالي قط إني عُوّضت عن واحدة ممن وصفت. قال ولم الفّتها إذاً. قلت لم يكن لي من شغل ولا حركة، ووجدت الزمان عليّ ولا سيما الليالي من دون مباشرة شيء ما فلفقت ما كان يخطر ببالي. قال وهلاّ تفرح الآن بتأليفك إذا قرأته أو إذا سمعت أن الناس يقرءونه. قلت بل اضحك من سخف عقلي وقتئذ. فإني قد عرّضت عرضي لأسن القادحين فضلاً عن كوني أضعت أوقاتي عبثاً فيما لم يجدني نفعاً. وقد بلغني أن كثيراً من المتزوجين ساءهم ما قلته في النساء وذكر مكايدهن فاستظهروا عليّ بجماعة من العلماء عابوا عليّ تبويب كتبي وخطّأوني في عبارتها. وكنت أيضا حكيت كلاما عن بعض النساء بلفظه فقالوا لا ينبغي أن يحكي الكلام بلفظه في الكتب وغير ذلك مما ندّمني كثيرا. قال قد سمعت أن الناس لا يزالون يعادون المؤلف حال حياته. فإذا مات حرصوا على كلمة يأثرونها عنه كما قال الشاعر.
ترى الفتى ينكر فضل الفتى ... ما دام حيّاً فإذا ما ذهب
لجّ به الحرص على نكتة ... يكتبها عنه بماء الذهب
قلت وما نفع هذا الحرص لمن مات. قال لا نفع منه غير إني أرى أن في النظم للذة عظيمة. ولا بدّ وأن يكون النثر أيضاً مثله فإنهما كليهما يخرجان من مخرج واحد أفلا تقول بصحة ذلك. قلت إني أقول باللذة في التأليف من جهة أن المؤلف يعرف شيئا جهله غيره. ولا شك أن في معرفة الحقائق لذة. غير أنه يقابلها من الألم ما يرجحها. وذلك أن المؤلف إذا عرفت مثلاً حقيقة وأراد أن يعرّف غيره إياها وجد اكثر الناس قد صُّموا عن سماعها. ومثل ذلك مثل طبيب نصوح رأى أهل بلدة يستحمون بالماء البارد في حال كونهم محمومين. فنصح لهم أن لا يفعلوا ذلك فأبوا وقالوا أن هذه البرودة تزيل الحرارة. فهو من جهة أنه عارف بالحقيقة مسرور. ومن جهة إنه يرى غيره في ضلال عنها محزون. وسروره لنفسه لا يوازن حزنه على غيره. ألا ترى أن أهل العلم كلهم ضعاف ضاوون قليلو الكلام والنوم والأكل والضحك. وأن الجهال سمان تارّون أصحاء كثيرو الأكل والنوم وغيره مما جعل لتقويم الطبيعة.
قال فما بال الأطباء سمان أيضا وهم بمنزلة العلماء في كونهم يعلمون من المنافع ما يجهله غيرهم. قلت أن الكبيب لا يرى الناس حين يأكلون ويشربون ويباعلون. وإنما يراهم حين يمرضون فلا تحزنه أفعالهم. فأما العالم فإنه في كل وقت ومكان يرى من العامة ما يدل على ضلالهم وجهلهم. فلا يمكنه والحالة هذه إلا أن يتأسف على ما هم فيه من الغباوة. والغفلة. قال أفتقولون إذا بالجهل. قلت هنيئاً لمن رضي به.
قال وما قولك في الشعر. قلت ان كان هو لمصلحة أي لشيء يعود إلى القيام بأودك فنعم هو. وإن يكن عن مجرد هوس وميل إلى التجنيس والترصيع أيان رأيت امرأة جميلة أو وردة روضة كما هو داب اكثر الشعراء يتكلفون للنظم في كل ما لاح لهم أو كرثائك الحمار الآن فتركه أولى. قال ولكن احسن الشعر ما جاء عن هوس أي عن السليقة لا بالتكليف. فإني حين أمدح السريّ أجد في ضم لفظة إلى أخرى ما يجده المعُاني لضم نقيضين مختلفين. وليس كذلك ما نظمته في الحمار. فإني نظمت فيه هذه المرثية في ساعة من الزمن. قلت لكن الناس لا ينظرون إلاّ الظاهر. فقصيدتك في الحمار يسمونها حمارية. وأبياتك في السري سرية.