السواد، وبلغ كسرى أن مال النعمان وحليته وولده عند هانئ بن مسعود، فبعث إليه: إن النعمان إنما كان عاملي وقد استودعك ماله وأهله والحلقة، فابعث بها ولا تكلفني أن أبعث إليك وإلى قومك بالجنود تقتل المقاتلة وتسبي الذرية، فبعث إليه هانئ: إن الذي بلغك باطل وما بيدي قليل ولا كثير، وإن يكن الأمر كما قد قيل فإنما أنا أحد رجلين: إما رجل استودع أمانة فهو حقيق أن يردها على من أودعه إياها ولن يسلم الرجل الخير أمانته، أو رجل مكذوب عليه فليس ينبغي أن تأخذه بقول عدو أو حاسد.
قالوا: وكانت الأعاجم قوماً لهم حلم قد سمعوا بعض علم العرب وعرفوا أن هذا الأمر كائن فيهم، فلما ورد على كسرى كتاب هانئ هذا حملته الشفقة أن يكون ذلك قد اقترب على أن أقبل حتى قطع الفرات وقد أحنقه ما صنعت بكر بن وائل في السواد ومنع هانئ إياه ما منعه، فدعا إياس بن قبيصة واستشاره في الغارة على بكر بن وائل، فقال له إياس: إن الملك لا يصلح أن يعصيه أحد من رعيته، وإن تطعني، لم يعلم أحد لأي شيء قطعت الفرات فيرون أن شيئاً من أمر العرب قد كربك، ولكن ترجع وتضرب عنهم وتبعث عليهم العيون حتى ترى غرة منهم ثم ترسل كتيبة من العجم فيها بعض القبائل التي تليهم فيوقعون بهم وقعة الدهر، ويأتونك بطلبتك، فقال له كسرى: أنت رجل من العرب وبكر بن وائل أخوالك فأنت تتعصب لهم ولا تألوهم نصحاً، قال إياس: رأي الملك أفضل، فقام إليه عمرو بن عدي بن زيد العبادي، وكان كاتبه وترجمانه بالعربية وفي أمور العرب فقال له: أقم أيها الملك أفضل مقام وابعث إليهم الجنود يكفوك، وقام النعمان بن زرعة من ولد السفاح التغلبي فقال: أيها الملك إن هذا الحي من بكر بن وائل إذا قاظوا بذي قار تهافتوا تهافت الجراد في النار، فعقد للنعمان بن زرعة على تغلب والنمر، وعقد لخالد بن يزيد البهراني على قضاعة وإياد، وعقد لاياس بن قبيصة على جميع العرب ومعه كتيبتاه الشهباء والدوسر، فكانت العرب ثلاثة آلاف، وعقد للهامرز على ألف فارس من الأساورة، وعقد لجنابرزين (?) على ألف، وبعث معهم اللطيمة، وهي عير كانت تخرج من العراق فيها البز والعطر والألطاف توصل إلى باذام عامله باليمن، وقال: إذا فرغتم من عدوكم فسيروا بها إلى اليمن، وأمر عمرو بن عدي أن يسير بها، وعهد كسرى إليهم إذا شارفوا بلاد بكر بن وائل ودنوا منها أن يبعثوا إليهم النعمان بن زرعة، فإن أتوكم بالحلقة ومائة غلام منهم يكونون رهناً بما أحدثت سفهاؤهم فاقبلوا منهم ولا تقاتلوهم.
فلما بلغ بكر بن وائل الخبر سار هانئ بن مسعود حتى نزل بذي قار، وأقبل النعمان بن زرعة حتى نزل على ابن أخته مرة بن عمرو، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إنكم أخوالي وأحد طرفي، وإن الرائد لا يكذب أهله، وقد أتاكم ما لا قبل لكم به من أحرار فارس وفرسان العرب والكتيبتان الشهباء والدوسر، وإن في الشر خياراً، ولأن يفتدى بعضنا ببعض خير من أن تصطلموا، انظروا هذه الحلقة فادفعوها وادفعوا رهناً من أبنائكم بما أحدث سفهاؤكم، فقال له القوم: ننظر في أمرنا، وبعثوا إلى من يليهم من بكر بن وائل وبرزوا ببطحاء ذي قار بين الجهلتين، وجعلت لا ترفع لهم جماعة إلا قالوا: سيدنا في هذه الجماعة، يعني حنظلة بن ثعلبة بن سيار، فإذا به فقالوا: يا أبا معدان قد طال انتظارنا وقد كرهنا أن نقطع أمراً دونك، وهذا ابن أختك النعمان بن زرعة قد جاء والرائد لا يكذب أهله، قال: فما الذي أجمع عليه رأيكم واتفق عليه ملأكم؟ قالوا: قلنا إن اللخي أهون من الوهي، وإن في الشر خياراً ولأن يفتدي بعضكم بعضاً خير من أن تصطلموا جميعاً، فقال حنظلة: قبح الله هذا رأياً، والله لا تجر أحرار فارس غرلها ببطحاء ذي قار وأنا أسمع الصوت، ثم أمر بقبته فضربت بوادي ذي قار، ثم نزل ونزل الناس وأطافوا به، ثم قال لهانئ بن مسعود: يا أبا أمامة إن ذمتكم ذمتنا وإنه لن يوصل اليك حتى تفنى أرواحنا، فأخرج هذه الحلقة ففرقها بين قومك فإن تظفر فسترد عليك، وان تهلك فأهون مفقود، فأمر بها ففرقت عليهم، ثم قال حنظلة للنعمان: لولا أنك رسول لما أبت إلى قومك سالماً، فرجع النعمان إلى قومه وأصحابه فأخبرهم بما رد عليه القوم، فباتوا ليلتهم يستعدون للقتال، وباتت بكر بن وائل يتأهبون للحرب، فلما أصبحوا أقبلت الأعاجم نحوهم، وأمر حنظلة بالظعن جميعاً فرفعها خلف الناس ثم قال: يا معشر بني بكر، قاتلوا عن ظعنكم أو دعوا، فأقبلت الأعاجم يسيرون على تعبئة، فقال ربيعة بن غزالة السكوني ثم التجيبي: يا بني شيبان لا تستهدفوا لهذه الأعاجم فيهلككم نشابها ولكن تكردسوا لهم كراديس فيشد عليهم كردوس، فإذا أقبلوا عليه شد الآخر.
قالوا: فلما التقى الجمعان وتتام القوم قام حنظلة بن ثعلبة