وكانت حربهم أربعين سنة فيهن خمس وقعات مزاحفات، وكانت تكون بينهم مغاورات، وكان الرجل منهم يلقى الرجل، والرجلان الرجلين، وكان أول تلك الأيام يوم عنيزة، وهي عند فلجة، فتكافأوا فيه: لا لبكر ولا لتغلب، وفي ذلك يقول مهلهل:
كأنا غدوة وبني أبينا ... بجنب عنيزة رحيا مدير
ولولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور فتفرقوا ثم غبروا زماناً. ثم التقوا يوم واردات وكان لتغلب على بكر، وقتلوا بكراً أشد القتل وقتلوا بجيراً، وفي ذلك يقول مهلهل:
فإني قد تركت بواردات ... بجيراً في دم مثل العبير ثم عادت الحرب بينهم زماناً وكان من الفريقين ما كان إلى أن صاروا إلى الموادعة. وكان جساس آخر من قتل في حرب بكر وتغلب، قاتل كليب، فإن أخت جساس كانت تحت كليب، فقتله جساس وهي حامل، فرجعت إلى أهلها، ووقعت الحرب فكان من الفريقين ما كان، وولدت أخت جساس غلاماً سمته الهجرس رباه جساس، فكان لا يعرف أباً غيره، فزوجه ابنته، فوقع بين الهجرس وبين رجل من بني بكر كلام، فقال له البكري: ما أنت بمنته حتى ألحقك بأبيك، فأمسك عنه ودخل إلى أمه كئيباً، فسألته عما به فأخبرها الخبر، فلما أوى إلى فراشه ونام إلى جنب امرأته وضع أنفه بين ثدييها فتنفس تنفيسة تنفط ما بين ثدييها من حرارتها، فقامت الجارية فزعة حتى دخلت على أبيها فقصت عليه قصة الهجرس، فقال جساس: ثائر ورب الكعبة، وبات جساس على مثل الرضف حتى أصبح فأرسل إلى الهجرس فأتاه فقال له: إنما أنت ولدي ومني بالمكان الذي قد علمت وقد زوجتك ابنتي وأنت معي، وقد كانت الحرب في أبيك زماناً طويلاً حتى كدنا نتفانى، وقد اصطلحنا وتحاجزنا، وقد رأيت أن تدخل في ما دخل فيه الناس من الصلح وأن تنطلق معي حتى نأخذ عليك مثل ما أخذ علينا، فقال الهجرس: أنا فاعل، ولكن مثلي لا يأتي قومه إلا بلأمته وفرسه، فحمله جساس على فرس وأعطاه لأمة ودرعاً، فخرجا حتى أتيا جماعة من قومهما، فقص عليهم جساس ما كانوا فيه من البلاء وما صاروا إليه من العاقبة، ثم قال هذا الفتى ابن أختي قد جاء ليدخل فيما دخلتم فيه ويعقد ما عقدتم، فلما قربوا الدم وقاموا إلى العقد أخذ الهجرس بوسط رمحه ثم قال: وفرسي وأذنيه ورمحي ونصليه وسيفي وغراريه لا يترك الرجل قاتل أبيه وهو ينظر إليه، ثم طعن جساساً فقتله ولحق بقومه، فكان آخر قتيل في بكر وائل.
ولما قتل جساس بن مرة كليباً كانت جليلة أخت جساس تحت كليب، فاجتمع نساء الحي للمأتم يقلن لأخت كليب: رحلي جليلة عن مأتمك فإن قيامها فيه شماتة وعار علينا عند العرب، فقالت لها: اخرجي يا هذه عن مأتمنا وأنت أخت واترنا وشقيقة قاتلنا، فخرجت وهي تجر أعطافها، فلقيها أبوها مرة فقال لها: ما وراءك يا جليلة؟ قالت: ثكل العدد وحزن الأبد، وفقد خليل، وقتل أخ عن قليل، وبين ذين غرس الأحقاد وتفتت الأكباد، قال لها: أو يكف ذلك كريم الصفح وإعلاء الديات، فقالت جليلة: أمنية مخدوع ورب الكعبة، أبالبدن تدع لك تغلب دم ربها، وفي الخبر طول.
عند مكة، فيه دفن عبد الله بن عمر رضي الله عنه سنة ثلاث وسبعين، وقيل بل دفن بفج.
واد على ثلاث ليال من منى، وقال أبو عبيدة: هو متاخم لسواد العراق، وفيه كانت الوقيعة بين العرب والفرس بسبب سلب النعمان بن المنذر، وذلك أن النعمان بن المنذر لما غضب عليه كسرى أبرويز بن هرمز بسبب إفساد زيد بن عدي بن زيد حاله عند كسرى أبرويز أتى هانئ بن مسعود بن عامر بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، فاستودعه ماله وأهله وولده وألف شكة، ويقال أربعة آلاف شكة، ووضع وضائع عند أحياء من العرب ثم هرب وأتى طيئاً فأبوا أن يدخلوه جبلهم، فخرج حتى وضع يده في يد كسرى فحبسه بساباط، وقيل بخانقين.
قالوا: فلما هلك النعمان جعلت بكر بن وائل تغير في