حتى يأتي الحليم فينهاه، قال.: كم سنة أتت عليك؟ قال: خمسون وثلثمائة، قال فما أدركت؟ قال: أدركت سفن البحر ترفأ إلينا في هذا النجف بمتاع الهند والصين، وأمواج البحر تضرب ما تحت قدمك، ورأيت المرأة من أهل الحيرة تأخذ مكتلها فتضعه على رأسها لا تزود إلا رغيفاً فلا تزال في قرى عامرة وعمائر متصلة وأشجار مثمرة ومياه عذبة حتى ترد الشام، وتراها اليوم قد أصبحت يباباً، وكذلك دأب الله تعالى في العباد والبلاد. فوجم خالد لما سمعه وعرف من هو، وكان مشهوراً في العرب بصحة العقل وطول العمر، قال: ومعه سم ساعة يقلبه في يده، فقال له خالد: يا هذا ما معك؟ قال: سم ساعة، فإن يكن عندك ما يسرني ويوافق أهل بلدي قبلته وحمدت الله تعالى عليه، وإن تكن الأخرى لم أكن أول من ساق إلى أهل بلده ذلاً فآكل السم فأستريح، قال له خالد: هاته، فأخذه ووضعه في راحته ثم قال: بسم الله وبالله رب الأرض والسماء، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء، ثم استرطه فجللته غشية ثم سري عنه وأفاق كأنما أنشط من عقال، فانصرف العبادي إلى قومه فأخبرهم. بما رأى وقال: يا قوم صالحوهم فإن القوم مصنوع لهم وأمرهم مقبل وأمر بني ساسان مدبر، وسيكون لهذه الأمة شأن ثم يحدث فيها هنات وهنات، فصالحوه، وقال عبد المسيح:
أبعد المنذرين أرى سواماً ... تروح بالخورنق والسدير
وصرنا بعد هلك أبي قبيس ... كمثل الشاء في اليوم المطير
تقسمنا القبائل من معد ... علانية كأيسار الجزور
نؤدي الخرج مثل خراج كسرى ... وخرج بني قريظة والنضير
كذاك الدهر دولته سجال ... فيوم من مساءة أو سرور ولما فسر سطيح وشق الكاهنان لربيعة بن نصر ملك اليمن رؤياه التي دلت على خراب سد مأرب وتفرق الأزد في البلاد، جهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى سابور بن خرزاد ملك فارس فأسكنهم الحيرة، فمن بقية ولد ربيعة بن نصر النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر.
قال أبو بكر بن عياش: كنت وسفيان الثوري وشريك النخعي نتماشى فيما بين الحيرة والكوفة فرأينا شيخاً أبيض الرأس واللحية حسن السمت والهيئة، فقلنا شيخ جليل قد سمع الحديث وأدرك الناس فملنا نحوه، فقال له سفيان، وكان أطلبنا للحديث: يا هذا، أعندك شيء من الحديث؟ فقال: أما حديث فلا ولكن عتيق سنين، فنظرنا فإذا هو خمار.
وحكى أبو الفرج الأصبهاني (?) أن سليمان بن بشر بن عبد الملك بن بشر بن مروان قال: كان بعض ولاة الكوفة يذم الحيرة في أيام بني أمية، فقال له رجل من أهلها وكان عاقلاً ظريفاً: أتعيب بلدة يضرب بها المثل في الجاهلية والإسلام قال: وبماذا (?) تمتدح؟ قال: بصحة هوائها وطيب مائها ونزهة ظاهرها، تصلح للخف والظلف، سهل وجبل، وبادية وبستان، وبحر وبر، محل الملوك ومرادهم ومسكنهم ومثواهم، وقد قدمتها أصلحك الله، مخفاً فأصبحت مثقلاً، ووردتها مقلاً فأصارتك مكثراً، قال: فكيف يعرف ما وصفتها به من الفضل؟ قال: تصير إليها ثم ادع بما شئت من لذات العيش، والله لا أجوز بك الحيرة قال: فاصنع لي صنيعاً واخرج من قولك، قال: أفعل، فصنع لهم طعاماً فأطعمهم من خبزها وسمكها وما صيد من وحشها من ظباء ونعام وأرانب وحبارى، وسقاهم ماءها في قلالها وخمرها في آنيتها، وأجلسهم على رقمها، وكان يتخذ بها من الفرش أشياء ظريفة ثم لم يستخدم لهم حراً ولا عبداً إلا من مولديها ومولداتها من خدم ووصائف كأنهم اللؤلؤ، لغتهم لغة أهلها، ثم أقعد معهم حنيناً فغناهم هو وأصحابه في شعر عدي بن زيد شاعرهم وأعشى همدان لم يتجاوزهما، وحياهم برياحينها ونقلهم على خمرها وقد شربوا بفواكهها ثم قال له: هل رأيتني استعنت على شيء مما رأيت وأكلت وشربت وافترشت وشممت بغير ما في الحيرة؟ قال: لا والله ولقد أحسنت صفة بلدك وأحسنت نصرته والخروج مما تضمنته، فبارك الله لكم في بلدكم.
وحيرة أيضاً قرية من قرى نيسابور.