إن الدنيا دار زوال لا تدوم على حال تنتقل بأهلها انتقالاً وتعقبهم بعد حالهم حالاً، كنا ملوك هذا المصر (?) يجبى إلينا خراجه ويطيعنا أهله، فلما أدبر الأمر، صاح بنا صائح الدهر، فصدع عصانا وشتت ملانا، وكذلك الدهر يا سعد ليس من قوم بحبرة إلا والدهر يعقبهم عبرة، ثم أنشأت تقول:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب تارات بنا وتصرف فأكرمها سعد رضي الله عنه وأحسن جائزتها، فلما أرادت فراقه قالت: لا نزع الله تعالى من عبد صالح نعمة إلا جعلك سبباً لردها عليه.
وروي أن إسحاق بن طلحة بن عبيد الله دخل على حرقة ابنة النعمان بن المنذر بالحيرة في بيعتها، وهي في نسوة راهبات فقال لها: كيف رأيت غمرات الملك يا حرقة؟ قالت: هذا خير مما كنا فيه، إنا لنجد في الكتاب أنه ليس من بيت يمتلئ حبرة إلا امتلأ عبرة، وأن الدهر لم يأت قوماً بيوم يحبونه إلا اختبأ لهم يوماً يكرهونه، وإن على باب السلطان كأشباه الجزر من الفتن، وإن واحداً لم يصب منهم شيئاً إلا أصابوا من دينه مثله، قال: فقلت: فكيف صبرك؟ قال: فأقبلت علي بوجهها ثم قالت: يا سبحان الله، تسألني عن الصبر؟ ما ميز أحد بين صبر وجزع إلا أصاب بينهما التفاوت في حالتيهما: أما الصبر فحسن العلانية محمود العاقبة، وأما الجزع فغير معوض عوضاً مع مأثمه، ولو كانا رجلين في صورتهما (?) لكان الصبر أولاهما بالغلبة في حسن صورة وكرم طبيعة في عاجلة من الدنيا وآجلة من الثواب، وكفى ما وعد الله تعالى إذ ألهمناه. قال فقلت: إنا لم نزل نسمع أن الجزع للنساء فلا يجزعن رجل بعدك في مصيبة، فلقد كرم صبرك، فقالت: أما سمعت قول الشاعر:
فاصبر على القدر المجلوب وارض به ... وإن أتاك بما لا تشتهي القدر
فما صفا لامرئ عيش يسر به ... إلا سيتبع يوماً صفوه الكدر ولم يزل (?) عمران الحيرة يتناقص مذ بنيت الكوفة إلى أيام المعتضد، فإنه استولى عليها الخراب، وكان فيها ديارات كثيرة ورهبان لحقوا بغيرها من البلاد لاستيلاء الخراب عليها، وهم يزعمون أن سعدها سيعود بالعمران. ونزلها جماعة من خلفاء بني العباس لطيب هوائها وصفاء جوهرها وقرب الخورنق والنجف منها. وكانت مدة الحيرة من أول وقت عمارتها إلى أول خرابها عند بناء الكوفة خمسمائة سنة وبضعاً وثلاثين سنة.
ولما أقبل خالد بن الوليد رضي الله عنه في سلطان أبي بكر رضي الله عنه بعد فتح اليمامة وقتل كذابها (?) يريد الحيرة تحصن منه أهلها في القصر الأبيض، وفيه كان إياس بن قبيصة، وقصر القادسية وقصر بني بقيلة وقصر بني مازن، وهذه قصور الحيرة، فنزل خالد بالنجف وبعث إليهم أن ابعثوا إلي رجلاً من عقلائكم، فبعثوا إليه عبد المسيح بن عمرو بن حسان بن بقيلة الغساني، وبقيلة هو الذي بنى القصر الأبيض، ودعي بقيلة لأنه خرج يوماً وعليه ثياب خضر فقال قومه: ما هذا إلا بقيلة، وعبد المسيح هذا هو الذي أتى سطيحاً فعبر رؤيا الموبذان وارتجاج الإيوان وما كان من ملوك بني ساسان (?) ، فأتى عبد المسيح خالداً وله يومئذ ثلثمائة سنة وخمسون سنة، فتجاهل عبد المسيح وأحب أن يريه من نفسه ما يعرف به عنده، فقال له خالد (?) : من أين أقصى أثرك؟ قال: من صلب أبي، قال: فمن أين جئت؟ قال: من بطن أمي، قال: فعلام أنت ويحك؟ قال: على الأرض، قال: أتعقل؟ قال: أي والله وأقيد. قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد، قال: اللهم اخزهم من أهل بلدة فما يزيدوننا إلا عمى، أسأله عن شيء فيجيبني عن غيره، قال: لا والله ما أجيبك إلا عن سؤالك، فسل عما بدا لك، قال: أعرب أنتم أم نبط، قال: نبط استعربنا وعرب استنبطنا، قال: فحرب أم سلم؟ قال: بل سلم، قال: فما لهذه الحصون؟ قال: بنيناها للسفيه تمنعه