وَلَو كَانَ للروح وجود قبل الْبدن وَهِي حَيَّة عَالِمَة ناطقة لكَانَتْ ذاكرة لذَلِك فِي هَذَا الْعَالم شاعرة بِهِ وَلَو بِوَجْه مَا
وَمن الْمُمْتَنع أَن تكون حَيَّة عَالِمَة ناطقة عارفة بربها وَهِي بَين مَلأ من الْأَرْوَاح ثمَّ تنْتَقل إِلَى هَذَا الْبدن وَلَا تشعر بِحَالِهَا قبل ذَلِك بِوَجْه مَا
وَإِذا كَانَت بعد الْمُفَارقَة تشعر بِحَالِهَا وَهِي فِي الْبدن على التَّفْصِيل وَتعلم مَا كَانَت عَلَيْهِ هَا هُنَا مَعَ أَنَّهَا اكْتسبت بِالْبدنِ أمورا عاقتها عَن كثير من كمالها فلَان تشعر بِحَالِهَا الأول وَهِي غير معوقة هُنَاكَ بطرِيق الأولى إِلَّا أَن يُقَال تعلقهَا بِالْبدنِ واشتغالها بتدبيره منعهَا من شعورها بِحَالِهَا الأول فَيُقَال هَب أَنه منعهَا من شعورها بِهِ على التَّفْصِيل والكمال فَهَل يمْنَعهَا عَن أدنى شُعُور بِوَجْه مَا مِمَّا كَانَت عَلَيْهِ قبل تعلقهَا بِالْبدنِ وَمَعْلُوم أَن تعلقهَا بِالْبدنِ لم يمْنَعهَا عَن الشُّعُور بِأول أحوالها وَهِي فِي الْبدن فَكيف يمْنَعهَا من الشُّعُور بِمَا كَانَ قبل ذَلِك
وَأَيْضًا فَإِنَّهَا لَو كَانَت مَوْجُودَة قبل الْبدن لكَانَتْ عَالِمَة حَيَّة ناطقة عَاقِلَة فَلَمَّا تعلّقت بِالْبدنِ سلبت ذَلِك كُله ثمَّ حدث لَهَا الشُّعُور وَالْعلم وَالْعقل شَيْئا فَشَيْئًا وَهَذَا لَو كَانَ لَكَانَ أعجب الْأُمُور أَن تكون الرّوح كَامِلَة عَاقِلَة ثمَّ تعود نَاقِصَة ضَعِيفَة جاهلة ثمَّ تعود بعد ذَلِك إِلَى عقلهَا وقوتها فَأَيْنَ فِي الْعقل وَالنَّقْل والفطرة مَا بدل على هَذَا وَقد قَالَ تَعَالَى {وَالله أخرجكم من بطُون أُمَّهَاتكُم لَا تعلمُونَ شَيْئا وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تشكرون} فَهَذِهِ الْحَال الَّتِي أخرجنَا عَلَيْهَا هِيَ حَالنَا الْأَصْلِيَّة وَالْعلم وَالْعقل والمعرفة وَالْقُوَّة طارىء علينا حَادث فِينَا بعد أَن لم يكن وَلم نَكُنْ نعلم قبل ذَلِك شَيْئا الْبَتَّةَ إِذْ لم يكن لنا وجود نعلم ونعقل بِهِ
وَأَيْضًا فَلَو كَانَت مخلوقة قبل الأجساد وَهِي على مَا هِيَ الْآن من طيب وخبث وَكفر وإيمان وَخير وَشر لَكَانَ ذَلِك ثَابتا لَهَا قبل الْأَعْمَال وَهِي إِنَّمَا اكْتسبت هَذِه الصِّفَات والهيئات من أَعمالهَا الَّتِي سعت فِي طلبَهَا واستعانت عَلَيْهَا بِالْبدنِ فَلم تكن لتصف بِتِلْكَ الهيئات وَالصِّفَات قبل قِيَامهَا بالأبدان الَّتِي بهَا عملت تِلْكَ الْأَعْمَال
وَإِن كَانَ قدر لَهَا قبل إيجادها ذَلِك ثمَّ خرجت إِلَى هَذِه الدَّار على مَا قدر لَهَا فَنحْن لَا ننكر الْكتاب وَالْقدر السَّابِق لَهَا من الله وَلَو دلّ دَلِيل على أَنَّهَا خلقت جملَة ثمَّ أودعت فِي مَكَان حَيَّة عَالِمَة ناطقة ثمَّ كل وَقت تبرز إِلَى أبدانها شَيْئا فَشَيْئًا لَكنا أول قَائِل بِهِ فَالله سُبْحَانَهُ على كل شَيْء قدير وَلَكِن لَا نخبر عَنهُ خلقا وأمرا إِلَّا بِمَا أخبر بِهِ عَن نَفسه على لِسَان رَسُوله وَمَعْلُوم أَن الرَّسُول لم يخبر عَنهُ بذلك وَإِنَّمَا أخبر بِمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَن خلق ابْن آدم يجمع فِي بطن أمه أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَة ثمَّ يكون علقه مثل ذَلِك ثمَّ يكون مُضْغَة مثل ذَلِك ثمَّ يُرْسل إِلَيْهِ الْملك فينفخ فِيهِ الرّوح فالملك وَحده يُرْسل إِلَيْهِ