فقال: قَدْ أراكَ تقْبَل شهادَة من لا يُقْبَل حديثُه؟
قال: فقلتُ: لِكِبَرِ أمْر الحديث ومَوْقِعه مِن المسلمين، ولمعنى بَيِّنٍ.
قال: وما هو؟
قلت: تكون اللَّفْظةُ تُتْركُ مِن الحديث فتُحيلُ معناه، أو يُنْطَقُ بها بِغير لَفْظَة المُحَدِّث، والناطِق بها غيرُ عامِدٍ لإحالة الحديث: فيُحِيلُ معْناه.
فإذا كان الذي يحملُ الحديثَ يجهَلُ هذا المعنى، كان غيرَ عاقِل للحديث، فلمْ نقْبَل حديثَه، إذا كان يحمل ما لا يَعْقِلُ، إن -[381]- كان ممن لا يُؤَدِّي الحديثَ بِحُروفِه، وكان يَلْتَمِس تأديته على معانيه، وهو لا يعقِلُ المعنى.
قال: أفيكونُ عَدْلًا غَيْرَ مَقْبول الحديث؟
قلت: نَعَمْ، إذا كان كما وصفْتُ كان هذا مَوْضِعَ ظِنَّةٍ بَيِّنَةٍ يُرَدُّ بها حدُيثه، وقد يكون الرجل عدلاً على غيره ظَنِينَاً في نفسه وبعض أقْرَبِيه، ولعلَّه أنْ يَخِرَّ من بُعْدٍ أهْوَنُ عليه مِن أنْ يَشْهَد بِبَاطلٍ، ولكنْ الظِّنَّةُ لَمَّا دَخَلَتْ عليه تُرِكَتْ بها شهادتُه، فالظِّنَّةُ ممن لا يؤدي الحديث بحروفه ولا يعقل معانيه: أبْيَنُ منها في الشَّاهِد لمن تُرَدُّ شهادتُه فيما هو ظَنِينٌ فيه بحال.
وقد يُعْتَبَرُ على الشُّهود فيما شهدوا فيه، فإن استدللنا على مَيْلٍ نسْتَبِينُهُ أو حِيَاطَةٍ بمُجاوزة قصْدٍ للمشهود له: -[382]- لمْ نَقْبَلْ شهادَتهم، وإنْ شهِدوا في شيء مما يَدِقُّ ويذْهَبُ فَهْمُه عليهم في مِثْل ما شهِدوا عليه: لمْ نقْبَلْ شهادَتهم، لأنهم لا يعقلون معنى ما شهدوا عليه.
ومَنْ كَثُرَ غَلَطُه مِن المحدثين ولم يكن له أصْلُ كِتَابٍ صحيح: لم نقبل حديثَه، كما يكون مَنْ أكْثَرَ الغَلَطَ في الشهادة لم نقبل شهادَته.
وأهلُ الحديث مُتَبَايِنُونَ:
- فمِنْهم المعروف بعِلْمِ الحديث، بطلَبه وسماعه مِن الأب والعمِّ وذَوِي الرَّحِمِ والصَّدِيقِ، وطُولِ مُجالَسَة أهلِ التَّنازُع فيه، ومَنْ كان هكذا كان مُقَدَّمًا في الحِفْظ، إنْ خالَفه مَنْ يُقَصِّرُ -[383]- عنه كان أوْلَى أنْ يُقْبَل حديثُه ممن خالفه مِنْ أهل التقصير عنه.
ويُعْتَبَرُ على أهْلِ الحديث بأنْ إذَا اشْتَرَكُوا في الحديث عن الرَّجُل بِأنْ يُسْتَدَلَّ على حِفْظ أحدِهم بِمُوَافَقَةِ أهْل الحِفْظ، وعلى خلاف حِفْظه بخلاف حفظ أهْلِ الحِفْظِ له.
وإذا اختلفَت الروايةُ استدللنا على المحفوظ منها والغَلَط بهذا، ووُجُوهٍ سِواه، تدُلُّ على الصدق والحفظ والغلط، قد بيَّناها في غير هذا الموضع، وأسأل الله التوفيق.