فأمَّا المُخْتَلِفةُ التي لا دِلالةَ على أيِّها ناسِخٌ ولا أيِّها مَنْسوخٌ، فكُلُّ أمْرِه مُوتَفِقٌ صحيح، لا اختلافَ فيه.
ورسولُ الله عَرَبِيُّ اللِّسان والدَّار، فقدْ يقولُ القولَ عامًّا يُريدُ به العامَّ، وعامًّا يريدُ به الخاصَّ، كما وصفتُ لك في كتاب الله وسُنَنِ رسولِ الله قَبْلَ هذا.
ويُسْئَلُ عَن الشيءِ فَيُجيب على قَدر المَسْألَةِ، ويُؤَدِّي عنه المُخْبِرُ عنه الخَبَرَ مُتَقَصًّى، والخَبَرَ مُخْتَصَرًا، والخبَر فيأتِيَ بِبَعْض مَعْناه دون بعض.
ويُحَدِّثُ عنه الرجلُ الحَدِيثَ قَدْ أدْرَكَ جَوَابَه ولم يُدْرك المسألَةَ فيَدُلَّه على حَقِيقَة الجَوَابِ، بِمَعْرِفَته السَّبَبَ الذي يَخْرُجُ عليه الجواب.
-[214]- ويَسُنُّ في الشَّيْء سُنَّة وفيما يُخَالِفه أخْرَى، فلا يُخَلِّصُ بَعْضُ السَّامِعِين بَيْنَ اختلاف الحالَيْنِ اللَّتَيْنِ سَنَّ فيهما.
ويسُنُّ سنَّةً في نصٍّ معناه، فَيَحْفَظُها حافِظٌ، ويَسُنُّ في مَعْنًى يُخَالِفُهُ في معنى ويُجَامِعُه في معنى، سنةً غيرَها، لاختلاف الحالَيْنِ، فيَحْفَظُ غيرُه تِلْكَ السنةَ، فإذا أدَّى كلٌّ ما حَفِظَ رَآهُ بعضُ السامِعِينَ اختلافًا، وليس منه شيءٌ مختلفٌ.
ويَسنُّ بِلَفْظٍ مَخْرَجُهُ عَامٌّ جملةً بتحريم شيء أو بتَحْليله، ويسنُّ في غيره خلافَ الجمْلة، فَيُسْتَدَلُّ على أنه لم يُرِدْ بما حَرَّمَ ما أحَلَّ، ولا بما أحَلَّ ما حَرَّمَ.
ولكل هذا نظيرٌ فيما كَتَبْنَا مِن جُمَل أحكامِ الله.
ويسُنُّ السنةَ ثم يَنْسَخُهَا بِسُنَّتِهِ، ولم يَدَعْ أنْ يُبَيِّنَ -[215]- كلَّمَا نَسَخَ مِن سنته بسنته، ولكن ربما ذَهَبَ على الذي سَمِعَ مِن رسولِ الله بعضُ علمِ الناسِخ أو عِلمِ المَنْسوخ، فَحَفِظَ أحدُهما دون الذي سمِع مِن رسولِ الله الآخَرَ، وليس يذهب ذلك على عامَّتهم، حتى لا يكون فيهم موْجوداً إذا طُلِبَ.
وكلُّ ما كان كما وصفْتُ أُمْضِيَ على ما سَنَّهُ، وفُرِّقَ بَيْنَ ما فَرَّقَ بينه منه.
وكانتْ طاعَتُه في تَشْعِيبِه على ما سَنَّهُ واجِبةً، ولم يقل: ما فَرَّقَ بَيْنَ كذا كذا؟
لأنَّ قولَ: مَا فَرَّقَ بَيْنَ كَذَا كَذَا؟ فيما فَرَّقَ بينه رسولُ الله، لا يَعْدُو أنْ يكونَ جَهْلًا ممن قاله، أو ارتِياباً شَرًّا مِن الجَهْل، وليس فيه طاعةُ الله باتِّباعه.