مباشرة اليقين فيها، وينتهى إلى غاية الاستبصار منها، فلم يعدوا في ذلك منزلة الظن بها. ولن تجدوا وصايا أنبياء الله أبداً إلا مبينة الأسباب، مكشوفة العلل، مضروبةً معها الأمثال.

فألفت لك كتابي هذا إليك، وأنا واصفٌ لك فيه الطبائع التي ركب عليها الخلق، وفطرت عليها البرايا كلهم، فهم فيها مستوون، وإلى وجودها في أنفسهم مضطرون، وفي المعرفة بما يتولد عنها متفقون.

ثم مبين لك كيف تفترق بهم الحالات، وتفاوت بهم المنازل، وما العلل التي يوجب بعضها بعضا، وما الشيء الذي يكون سبباً لغيره، متى كان الأول كان ما بعده، وما السبب الذي لا يكون الثاني فيه إلا بالأول، وربما كان الأول ولم يكن الثاني. وفرق ما بين الطبع الأول وبين الاكتساب والعادة التي تصير طبعاً ثانيا. ولم اختلف ذلك؟ وكيف دواعي قلوب الناس، وما منها يمتنعون عنه، وما منها لا يمتنعون منه. وما أسباب نوازع شهواتهم؟ وما الشيء الذي يحتال لقلوبهم به حتى تستمال، وحتى تؤنس بعد الوحشة، وتسكن بعد النفار؟ وكيف يتأتى لينقض ما فيهم من الطبائع المذمومة حتى تصرف إلى الشيم المحمودة؟ وراسمٌ لك في ذلك أصولاً، ومبين لك مع كل أصل منها عليه وسببه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015