فصل منه
ولم أزل - أبقاك الله - بالموضع الذي عرفت من جمع الكتب ودراستها والنظر فيها. ومعلوم أن طول دراستها إنما هو تصفح عقول العالمين، والعلم بأخلاق النبيين - صلوات الله تعالى عليهم أجمعين - وذوي الحكمة من الماضين والباقين من جميع الأمم، وكتب أهل الملل.
فرأيت أن أجمع لك كتاباً من الأدب، جامعاً لعلم كثير من أمر المعاد والمعاش، أصف لك فيه علل الأشياء، وأخبرك بأسبابها، وما اتفقت عليه محاسن الأمم. وعلمت أن ذلك من أعظم ما أبرك به، وأرجح ما أتقرب به إليك.
وكان الذي حداني إلى ذلك ما رأيت الله تعالى قسم لك من العقل والفهم، وركب فيك من الطبع الكريم.
وقد اجتمعت الحكماء على أن العقل المطبوع والكرم الغريزي، لا يبلغان غاية الكمال إلا بمعاونة العقل المكتسب، ومثلوا ذلك بالنار والحطب، والمصباح والدهن، وذلك أن العقل الغريزي آلة والمكتسب مادة، وإنما الأدب عقل غيرك تزيده في عقلك.
ورأيت كثيراً من واضعي الأدب قبلي، قد عهدوا إلى الغابرين بعدهم في الآداب عهوداً قاربوا فيها الحق، وأحسنوا فيها الدلالة. إلا