وهاتان جملتان داخلٌ فيهما جميع محابِّ العباد ومكارههم. والنفس في طبعها حب الراحة والدعة، والازدياد والعلوّ، والعز والغلبة، والاستطراف والتَّنُّوق، وجميع ما تستلذ الحواس من المناظر الحسنة، والروائح العبقة، والطعوم الطيبة، والأصوات المونقة، والملامس اللذيذة. ومما كراهيته في طباعهم أضداد ما وصفت لك وخلافه.
فهذه الخلال التي تجمعها خلتان غرائز في الفطر، وكوامن في الطبع؛ جبلةٌ ثابتة، وشيمة مخلوقة. على أنها في بعضٍ أكثر منها في بعضٍ، ولا يعلم قدر القلة فيه والكثرة إلا الذي دبَّرهم.
فلما كانت هذه طبائعهم، أنشأ لهم من الأرض أرزاقهم، وجعل في ذلك ملاذَّ لجميع حواسهم، فتعلقت به قلوبهم، وتطلعت إليه أنفسهم. فلو تركهم وأصل الطبيعة، مع ما مكن لهم من الأرزاق المشتهاة في طبائعهم، صاروا إلى طاعة الهوى، وذهب التعاطف والتبارُّ. وإذا ذهبا كان ذلك سبباً للفساد، وانقطاع التناسل، وفناء الدنيا وأهلها؛ لأن طبع النفس لا يسلس بعطية قليل ولا كثير مما حوته، حتى تعوَّض أكثر مما تعطى، إما عاجلاً وإما آجلاً مما تستلذه حواسها.