وقلت: ابدأ لي بالشّام ومصر، وفضل ما بينهما، وتحصيل جمالهما، وذكرت أنّ ذلك سيجرّ العراق والحجاز، والنجود والأغوار، وذكر القرى والأمصار، والبراريّ والبحار.
واعلم- أبقاك الله- أنّا متى قدّمنا ذكر المؤخّر وأخّرنا ذكر المقدّم، فسد النّظام وذهبت المراتب. ولست أرى أن أقدّم شيئا من ذكر القرى على ذكر أمّ جميع القرى. وأولى الأمور بنا ذكر خصال مكّة، ثمّ خصال المدينة.
ولولا ما يجب من تقديم ما قدّم الله وتأخير ما أخرّ، لكان الغالب على النفوس ذكر الأوطان وموقعها من قلب الإنسان.
وقد قال الأوّل: «عمّر الله البلدان بحبّ الأوطان» ، وقال ابن الزّبير:
«ليس الناس بشيء من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم» .
[و] لولا ما منّ الله به على كلّ جيل منهم من الترغيب في كل ما تحت أيديهم، وتزيين كلّ ما اشتملت عليه قدرتهم، وكان ذلك مفوّضا إلى العقول، وإلى اختيارات النّفوس- ما سكن أهل الغياض والأدغال في الغمق واللّثق، ولما سكنوا مع البعوض والهمج، ولما سكن سكّان القلاع في قلل الجبال، ولما أقام أصحاب البراري مع الذّئاب والأفاعي وحيث من عزّ بزّ، ولا أقام أهل الأطراف في المخاوف والتّغرير، ولما رضي أهل الغيران وبطون الأودية بتلك المساكن، ولا لتمس الجميع السّكنى في الواسطة، وفي بيضة العرب، وفي دار الأمن والمنعة. وكذلك كانت تكون أحوالهم في اختيار المكاسب والصناعات وفي اختيار الأسماء والشّهوات. ولاختاروا الخطير على الحقير، والكبير على الصغير.
ألا تراهم قد اختاروا ما هو أقبح على ما هو أحسن من الأسماء والصّناعات،