ممّن يستنام إلى قوله، ويصدّق خبره، وممن إن قال صدق، أو مدح اقتصد، يثني بقدر البلاء، فإنّ إشراف [3] الثّناء على قدر النّعمة يولّد في القلوب التكذيب، ويدلّ على طلب المزايد.
فأمّا ثناء المادحين لك في وجهك، فإنّما تلك أسواق أقاموها للأرباح، وساهلوك في المبايعة، ولم يكن في الثّناء عليهم كلفة، لكساد أقاويلهم عند الناس. أولئك الصادّون عن طرق المكارم، والمثبّطون عن ابتناء المعالي.
فارتد لنعمك مغرسا تنمو فيه فروعها، وتزكو ثمرتها، لا تذهب نفقتك ضياعا، إمّا لعاجل تقدّمه، أو لآجل ثناء تنتفع به.
ولن تعدم أن يفجأك في بعض أحوالك حقوق تبهظك، وأحوال تفدحك، وأمور كلّها تتقسّم عنايتك، وفي التثبّت في مثلها تعرف فضيلتك، فلا تستقبلها بالتضجّع وتفتير الرأي، وابدأ منها بأعظمها منفعة، وأشدّها خوف ضرر. وكل ما أعجزك إلى الكفاة، واعتذر من تقصير إن كان؛ فإنّ الاعتذار يكسر حميّا اللائمة، ويردع شذاة الشّرّة.
ثمّ تلاف بعد انكشاف ذلك عنك ما فاتك، واجهد الجهد كلّه أن تكون مخارج الحقوق اللازمة لك من عندك سهلة، موصولة لأصحابها ببشرك وطلاقة وجهك؛ فقد زعمت الحكماء أنّ القليل مع طلاقة الوجه أوقع بقلوب ذوي المروءات من الكثير مع العبوس والانقباض.
وقد قال بعض الحكماء: «غاية الأحرار أن يلقوا ما يحبّون ويحرموا، أحبّ إليهم من أن يلقوا ما يكرهون ويعطوا» .
[وما أبعدوا عن الحق] ولا يدعونّك كفر كافر لبعض نعمك ممن آثر هواه على دينه ومروءته، أو غدرة غادر تصنّع لك وختلك عن مالك، أن تزهد في الإنعام، وتسيء بثقاتك الظنون، فإن هذا موضع يجد الشيطان في مثله الذريع إلى استفساد الصنّائع،