وزعموا أن ذلك من إفراط الشّره، وأنّ أصل الشّره والحسد واحد وإن افترق فرعاهما.
وذمّوا الحسد كذمّهم الجزع، لما يتعجّل صاحبه من ثقل الاغتمام، وكلفة مقاساة الاهتمام، من غير أن يجدي عليه شيئا. فالحسد اغتمام، والغدر لؤم.
وقال بعض الحكماء: «الحسد خلق دنيء، ومن دناءته أنّه يبدأ بالأقرب فالأقرب» . وزعموا أنّه لم يغدر غادر قطّ إلّا لصغر همّته عن الوفاء، وخمول قدره عن احتمال المكاره في جنب نيل المكارم.
وبقدر ما ذمّت الحكماء هذه الأخلاق الأربعة، فكذلك حمدت أضدادها من الأخلاق، فأكثرت في تفضيلها الأقاويل، وضربت فيها الأمثال، وزعمت أنّها أصل لكل كرم، وجماع لكل خير، وأنّ بها تنال جسام الأمور في الدّنيا والدين.
فاجعل هذه الأخلاق إماما لك، ومثلا بين عينيك، ورض عليها نفسك، وحكّمها في أمرك، تفز بالرّاحة في العاجل، والكرامة في الآجل.
والصبر صبران: فأعلاهما أن تصبر على ما ترجو فيه الغنم في العاقبة.
والحلم حلمان: فأشرفهما حلمك عمّن هو دونك. والصّدق صدقان: أعظمهما صدقك فيما يضرّك. والوفاء وفاءان: أسناهما وفاؤك لمن لا ترجوه ولا تخافه.
فإنّ من عرف بالصّدق صار الناس له أتباعا، ومن نسب إلى الحلم ألبس ثوب الوقار والهيبة وأبّهة الجلالة، ومن عرف بالوفاء استنامت بالثّقة به الجماعات ومن استعزّ بالصبر نال جسيمات الأمور.
ولعمري ما غلطت الحكماء حين سمّتها أركان الدّين والدّنيا.
فالصّدق والوفاء توأمان، والصّبر والحلم توأمان، فهنّ تمام كلّ دين، وصلاح كلّ دنيا. وأضدادهنّ سبب كلّ فرقة، وأصل كلّ فساد.
واحذر خصلة رأيت الناس قد استهانوا بها، وضيّعوا النظر فيها، مع